التسلحُ اللغوي

الدكتور عبد الباقي الخزرجي /كلية العلوم الإسلامية – جامعة كربلاء 

بسم الله الرحمن الرحيم

  حمدا للخالق المنان والصلاة والسلام على أشرف إنسان وأتم برهان وعلى اله خير ترجمان للقران وبعد

  فلعل القراءة الاولى لهذا العنوان تثير تساؤلات بمدى امكانية التسلح باللغة وأين تكمن مجالاته وكيف يكون ومتى يتحقق وما أدواته….

    والمرجو من هذا البحث المختصر ان يكشف عن مجالات عملية وقعت ويستأنس منها اجوبة على تلك التساؤلات وهذا هو المأمول منه.

  فكون اللغة بين الظواهر الاجتماعية كلها في المجتمعات البشرية بعمومها من اقوى العلاقات الانسانية التي تنظم صلة الانسان بأخيه الانسان وديمومة بقائه والوسيلة المثلى من ادوات تطوره وما سمي الانسان انسانا الا لانه يأنس بنظيره الانسان.

   وكون اللغة اعظم الظواهر الاجتماعية وعنصر الاشتراك الانساني والمرآة التي تعكس صور الامم والشعوب وكون العربية تمثل ضمير الامة بل هي الامة نفسها تعبر عن افكارها وأحاسيسها وأمالها وآلامها , والوعاء الاصلح التي استوعب ثقافتها وحضارتها وتراثها وعطاءاتِها الانسانية بل الوسيلة التي عرفت بها الامةُ رشدها وسعادتها والمقوم الأقوم من مقومات بقائها وديمومتها ووحدتها فان التسلح بها والاستقواء بأهدابها من اعاظم  مصاديقِ التسلحِ عموماً.

   ومن الاستدلالات العملية لهذا المفهوم إن العربية أضحت معجزة القران الكريم الاولى بل الاظهر من معاجزِهِ الكبرى المتنوعة سواء حين نزوله المبارك حين كانت العربية في اوج قوتها وحيويتها وبهائها أو بعد ذلك وهكذا الى يومنا هذا , وستبقى كذلك ما بقيت وعاء للقران ولغته فأنها تعلو بعلوه فانه لا يعلى عليه وهذه المعجزة ما كانت تتحقق لو لا شيوع ذلك المستوى الرفيع للغة العرب فهماً واستيعاباً وتذوقاً وحسن اداءٍ والذي كادت العربية أن تصل معه حد الكمال (السليقة) اذ تمكن العرب من ناصيتها بلاغةً وفصاحةً وأدباً ونقاءً وحيويةً حتى اضحت رمز عزهم وعنوان مجدهم وموضع فخارِهم وكبريائهم وبضاعتهم التي لا تبارى وسلعتهم التي لا تجارى وما اعتز قوم بلسانهم كما اعتزت العرب بلسانها حيث تسلحوا بها ايما تسلحٍ ولو لم يكن هذا واقع العربية فكيف السبيل الى فهم تحدي القرآن الكريم عربية العرب بسلاح نوعي من صنف سلاحهم , أقوى وأميز مما الفوه وأتقنوه ومارسوه وافتخروا به  بتحد جلي سافرٍ بأن يأتوا بمثله ثم بعشر سورٍ من مثله ثم بسورةٍ واحدةٍ من مثله سوى الجزم بأنهم قد تملكوا مادة التحدي وإلا لم يتحقق , ولم يكن في موضعه ومحله ومن ثم لما تحقق الاعجاز. فالعرب امنوا بالقران اول الامر عن انبهار ملفت بلغته , وإلى ذلك أشار شاعر العراق الكبير المرحوم احمد الصافي النجفي :

قد امن العرب بالقران عن أدب                   حتى انبروا ينشرون الدين فرسانا

فهو المقدس حقا عند ذي أدب                   مهما يكن دينه إن يصف وجدانا

من لم يذق أدب القرآن معجزةً                  أضحى يواجه في الايمان نقصانا

فالدين ليس بتقليدٍ نلقنه                              بل اقتناع يقيم العقل برهانا

    وهكذا وقفنا وقفة المتمعن على انتصار القران الكريم في ساحته الاولى من ساحات انتصاراته الجمة المباركة والمستمرة ألا  وهي ساحة عربيته ووعائه.

   ومن خلال خبرتنا في الجزائر فقد سجل التاريخ المعاصر في سجله الناصع انتصارا باهرا لسلاح العربية في غلبتها في الثورة الجزائرية في القرنين الماضيين حيث تصدت العربية للمستعمر الفرنسي الذي كان يستهدفها في مهدها وبالتالي الامة في وجودها متمثلةً بالقرآن الكريم ومبادئه حين نهض ثلة من أبناء العربية والغيارى الذين حفظوا القرآن حفظ دراية ووعايةٍ وعلى رأسهم العلامة الكبير الادريسي النسب محمد بشير الابراهيمي الذي عرف عنه مواهب عديدة ولكن برز منها عربيته وفصاحته وذلاقة لسانه حيث جعلها سلاحا في وجه المستعمر مع شدة المحنة وقلة الحيلة وقساوة العدو فتسلح بها وحملها سلاحا يجول بها بين القرى والمدن والجبال والوديان حتى خلق مقاومة عنيدةً لا تتفكك انطلاقاً من لغته فكانت عماد مشروعه الثقافي التوعوي بفضل ما استوعب من ادب القرآن وثقافة العربية حتى توج هذا التسلح بتحرير البلاد من هيمنة المستعمر والانعتاق من عبودية لغته وثقافتها.

   وكان هذا الموضوع الحيوي محور مؤتمر دولي سنة 2000 ميلادية اقامه مركز اللغة العربية الثقافي بجنيف , والذي اسسناه منذ عقدين لإشاعة عربية القرآن وثقافتهما وقد حضر المؤتمر رجال فكر وكتاب ومثقفون كان له صدى كبير فكان مصداقاً واقعياً لما تبنته فكرة (التسلح اللغوي)

   فالعربية واجهت تحديات كبرى دون ان تكترث بها وكما استوعبت حضارات وثقافات انسانية وسجلتها وحفظتها في حروفها وحركاتها الجميلة ورسمه الرائع الذي هو مفخرة لها دون ان تشكو يومان او تئن من حمل فكذلك احتضنت نتاج السماء بوعائه الشفاف من غير ان يعتريه وهن , ولم يعهد عنها أنها  رميت أو اتهمت قدرتها بما يسيء اليها الا من اناس قمشوا جهلا فجهلوا حتى جهل معهم اخرون تبعا.

   وما الضعف الذي نعهده في عربيتنا اليوم الا انعكاس ما أصيبت به ألامة بناشئتها حيث نشأت (مع الاسف) على أعتقاد ناقص في لغتها وهي من أخطر المخاطر وأشد المصائب أذ مورس بحق العربية جرائم لا يمكن أن تغفر لأصحابها أو المنتسبين لها أذ أسندت مهمة تعليمها وتدريسها الى نفر (وليسوا بقليل) لم يستوعبوها فهما ولا تذوقا ولا أداء فكيف بمهمة أيصالها الى من يتلقاها منهم ففاقد الشيء لا يعطيه فرسموا لها صورة شوهاء صلعاء يهرب منها المتعلم ويجزع منها المحب الحريص فانزوت عن عالميتها وازورت الناشئة عنها وعن ثقافتها وجعلوها ورائهم ظهريا وبخاصه قواعده النحوية منها والتي هي المحور الأول والعماد الأقوى لاثبات نظافة وعائها ووجهها الجميل الحسن المشرق وبالتالي تحقيق الهدف الانساني النبيل ألا وهو الفهم الصحيح والدقيق لمعاني الجمل التي هي أفكار تتقولب في كلمات وعبارات وجمل تحمل فكرا أذ أن وظيفة النحو تقنين انتظام العلاقات بين مكونات الجملة وبنائها .

   فالقاعدة النحوية تستنبط وتكتشف من استقراء النصوص المقروءه والمسموعة والمكتوبة لا ان تفرض عليها فرضا .

    وللولوج في هذا البحث عن هذا الشأن الخطير يحتاج الى موضع اخر من مواضع البحث والدراسة .

وأختم مقالتي بما قاله أيضا الشاعر الكبير الصافي النجفي : 

جمعت في منهجي دينا ألى أدب                 وكان في ذلك القرآن يهدينِ

   فمن أتخذ القرآن منهجا له لغة وفكرا فقد تسلح ثم فاز