الدكتور علي محمد ياسين / كلية العلوم الاسلامية/ قسم اللغة العربية
بعيدا عن إحساسه العالي بإنسانيّة الثقافة واشتمالها على البعد الأخلاقي العذب لم يستسغ الشاعر الكربلائي الكبير محمد علي الخفاجي التجويق والتطبيل الفارغ الذي تناكب عليه بعض المحسوبين على المثقفين والأدباء والشعراء إبان مدة الحكم البعثي المتهالك على شراء الضمائر والنفوس.
فقد زهد الخفاجي الكربلائي الهوى والمولد بكلّ ما يمكن أن يمنحه إبداعُه من مناصب ومن أموال ومن جاه وشهرة، وأعرضَ عن المهرجانات وضجيجها الإعلامي مكتفيا بمعانقة اغترابه الاختياري ومغازلا غربته المرّة عن واقع ثقافي واجتماعي لا يمكن أن يمت لقيم الإنسان ولا لشرائط الإبداع بأدنى صلة.
وبالرغم من أن الخفاجي ينتمي ثقافيا وشعريّا إلى جيل الستينات، إذ أصدر أول دواوينه (شباب وسراب) مطلع العقد المذكور وتبعه في أواسط العقد نفسه بديوانه الثاني (مهرا لعينيها) ثمّ جاء ديوانه الشعري الثالث بعد أحداث نكسة حزيران عام 1967م بعنوان ( لو ينطق النابالم! ) ليؤكّد انتماء الرجل إلى الجيل المذكور والمعروف بتأطيره لمجموعة ملامح بارزة في تاريخ الحركة الأدبيّة والثقافيّة في العراق، إلّا أنّه بسبب جفوة الخفاجي المقصودة للآلة الإعلامية البعثية فقد ظلّ مغموط الحظ عند إعادة تحقيب الأجيال الشعريّة والإبداعيّة حتى يومنا هذا، فلا يكاد اسمه يُذكر ضمن جماعات الجيل الستيني كردّ فعلٍ واضح لهذه الجفوة مع الإقرار بمساهمته الفاعلة في إنتاج ذلك الجيل وفي أنشطته المختلفة .
ظلّ الخفاجي يستلّ نصوصه الإبداعية من ذاكرة تسترجع تجاربه الحياتيّة الخاصّة ومن وعيه للأشياء والأمكنة بلغة ذات سمت يتوسع فيه الفضاء المجازي، وتتوتر التراكيب وتنقبض بحسب السياقات، وتضيق دائرة الغموض، لكن بدون أن تتخلّى هذه النصوص عن المزاج الشعري الذي يطبعها بميسمه الذي عُرف به الخفاجي شاعرا كربلائيا ينظر لثورة الحسين نظرة حضارية مختلفة عن السياق العام الذي يحصرها في البكاء والتحسّر الفاجع. ولذلك استطاع الخفاجي الكاره للأضواء المسيّسة والمشبوهة، أن يحقق نجاحا واضحا في المهرجانات والمؤتمرات الثقافيّة التي اشترك فيها من خلال حصده للجوائز الأدبية العديدة، إذ فازت مسرحيته (ثانيةً يجيء الحسين) بجائزة الجامعة العربيّة، مثلما فازت نفسُها قبل ذلك بـجائزة المسرح العراقيّ في ستينيات القرن الماضي، وقد نالت مسرحيته الموسومة (أبو ذر يصعدُ معراجَ الرفض) جائزة اليونيسكو عام 1980م، وأُدرجت في المنهج الدراسيّ الثانوي لبعض دول المغرب العربي، بينما فازت مسرحيته الشعريّة (وأدرك شهرزاد الصباح) بـجائزة المسرح العراقيّ عام 1973م من بين مجموعة كبيرة من النصوص العربيّة والعراقيّة الجادة آنذاك، أمّا عمله الإبداعي (حين يتعب الراقصون ترقص القاعة) فقد حقّق جائزة اتحاد الكتّاب المغاربة عام 1974م.
ولعلّ الخفاجي لم يبرعْ في شأن من شؤون إبداعه الأدبي والمعرفي كما برع في الدراما الشعريّة وفي توظيف ثيمة النهضة الحسينيّة المباركة، وفي ما يمكن أن توحي به واقعة كربلاء من دروس وعِبَر ورموز تختزل طاقة هائلة لتحريك العواطف والمشاعر الإنسانيّة صوب الخير والكمال والسمو، ولذلك لم يتنازل شاعرنا المبدع يوما عن رهانه على فتح نافذة التجريب واستثمار كلّ احتمالاته في معالجة إبداعيّة تنبني بالدرجة الأساس على ثيمة (موضوعة) واحدة، لكن هذه المعالجة تتآزر مع رؤية حداثيّة تلبّي حاجة العصر في تناول وقائع ذات أبعاد وجذور تراثيّة، وفي القدرة على إعادة صياغة هذه الوقائع فنيّا.
إنّ تجريب الخفاجي في ( كربلائيّاته ) أو مسرحياته المشهورة وهي: (ثانية يجئ الحسين) و(ذهب ليقود الحلم) و(الجائزة) جاء موافقا لنزوعه الشخصي ولطبيعة بيئته الاجتماعيّة أثناء فترة الستينيّات من القرن الماضي وبعدها، إذا ما أخذنا بالحسبان إنّ الكتابة هي عمليّة تفاعل وعي الكاتب مع شروطه التاريخية وتصادياتها المجتمعيّة التي كانت تمور بخذلان مكسور وبشعور طاغ بالفجيعة والاستلاب، وهو ما يبرر حاجة الخفاجي لكتابة هذه المسرحيّات التي تستوحي إرهاصات الثورة الحسينيّة بعد هزيمة حزيران، وهو ذاته ما يسوّغ إعلانه وصرخته عن حاجة الأمّة إلى منقذ آخر بحجم الحسين يأتي ليفتح النيران بوجه وعي مخدّر ومهادن وغير مدرك لسرّ كلمة (لا) التي دوّت بها شفاه الإمام لتكون لافتة للرفض على مرّ العصور.
للخفاجي حوارات كثيرة منشورة ومداخلات نقديّة أكّد من خلالها حضور التاريخ كفاعل مؤثّر بوقائعه وشخوصه ورموزه في المسرح الشعري الذي يكتبه إلى درجة لا يمكن تخطّي هذا الفاعل الذي تشدّه إلى المسرح علاقة وثيقة أثرت كثيرا في رؤية الخفاجي؛ فحاول توظيفها بشكل خلّاق بدون أن يُجيّر نصّه بالانتماء الى حقبة تاريخية معيّنة، بل سعى لجعله مفتوحا متعدِّد الدلالات متنوّعها. إن اعتماد الخفاجي على المادة التاريخية مخزونا لإبداعه إلى جانب اللغة الشعريّة السلسة في توصيل رؤيته الفكريّة ومقدرته المسرحيّة جعل المسافة بينه وبين المتلقي متاحة لتوصيل رسالته الإبداعيّة الموشومة بذاكرة كربلائيّة مجروحة من غير انهزام، ومقموعة لكن من غير انكسار.