في هذا المقال نتحدث عن البناء الفكري وهناك ثمة فرق حيث ان البناء العقلي يعتبر من القدرات التي يمنحها الله تبارك وتعالى للانسان بما يمحه من قوة في الادراك وذلك له عدة عوامل وراثية وجنينية قد اشار القران اليها عندما تحدث عن طلب النبي زكريا لوريث يرثه(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً ∗ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً) سورة مريم الاية:5-6 وكلنا يعرف انه لم يعني الارث المادي بل قدرة تلقي النبوة بدليل انه عشره الله بيحيا (يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ∗ وَحَنَانَاً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً ∗ وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً ∗ وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً)سورة مريم الاية 12-14 تحدث عن قدراته العقلية والذهنية حيث انه يؤتى الحكم صبيا ،في هذه المقالة نريد التعرف على البناء الفكري الذي هو مهارة تكتسب بالصقل والتدريب كيف يبينها القران؟
يعتبر موضوع التفكير من أخطر المواضيع وأهمها وأرقاها لأن عشرات التفكير لا تحصي ولا تعد، وآثاره على الإنسان والمجتمع وعلى كل شيء تعلق به كبيرة. ذلك أن سمو الإنسان أو انحطاطه مرتبط به، ورقي المجتمعات وازدهارها المادي أو تدنيها وانحطاطها مرتبط به كذلك. وللفكر الإنساني دوره الهام في الرقي أو في الانحطاط، في الإنهاض أو في التدني والانتكاس في الكفر، في التقوى أو في الفسق والظلم، في الشقاء أو في السعادة، وبالتفكير يحصل العلم ويقهر الجهل، فهو أغلى شيء عند الإنسان ولأجله أسجد الله الملائكة لآدم، ورغم أن عثرات التفكير ونتائجه عرفها الإنسان ووعاها إلا أن التفكير بقي غامضاً لديه مستعصياً عليه، وكانت محاولات العلماء المفكرين من أجل تعريفه وتحديد عوامله وطرقه وأنواعه، غير مؤدية إلى نتائج صحيحة رغم أن بعض المحاولات كانت جادة، لكن أفسدها وأفسد نتائجها الانطلاق من خلفيات فكرية فاسدة مثل الإصرار على أن العالم مادي وأن كل شيء فيه يتطور لتطور المادة، أو الإصرار على إنكار صلة الخالق بالحياة وجعلها قاعدة فكرية.
مداخل الافكار
الذهن البشري الة مستعدة لاستقبال الموضوعات كمادة خام ليتم التفكير فيها فنرى ان القران أرشد القرآن إلى المستقبلات ودل عليها بقوله سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) سورة المومنون :الاية 78. هنا يمن الخالق علينا بأن جعل لنا الحواس التي بها نقوم بالعملية الفكرية ونتوصل إلى العلوم ولذلك وردت في الآية (لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا)، وعقبها ذكرت بعض الحواس ذكراً يفيد العلية في العلم، لعل ذلك يجعلنا نشكر الله على أكبر نعمة وهبها للإنسان وهي نعمة التفكير. ذلك أن استخدام الإنسان لحواسه هو الذي يوجد العلم ويجعل الإنسان يفكر وينتج، يحكم ويستنتج، يؤسس ويبني، يصحح ويصوب، يرتفي ويسمو، يميز ويختار، وإذا أضفنا الفؤاد المذكور في كثير من الآيات وهو إطلاق مجازي يريد القرآن أن يعبر من خلاله عن عدم الارتياب والشك عندما ترتبط الأفكار بالأفئدة، أي إذا سارت العملية الفكرية وتمت بطريقة صحيحة وانعقد القلب على ما أنتجته العملية من أفكار، وهو تصوير لارتباط الفكر بالوجدان أو بالأحاسيس من أجل إعطائها حرارة وحيوية من شأنها أن تدفع بصاحبها من أجل العمل بها أو إيجادها، لهذا استلزم الربط بين العوامل التي ذكرها القرآن وبين العملية الفكرية نفسها لنفهم أنه لا بد من دماغ صالح للربط بين الصور التي تلتقطها الحواس وبين المعلومات السابقة ليحصل إنتاج الأفكار.
مهارة التفكير
وإشارة القرآن لعوامل تنمي مهارة التفكير بعضها يسرد بشكل نظري فيجعلك تخوض نفس التجربة الفكرية وبعضها يستنفرك لتخوض تجربة عملية تنمي مهارنك الفكرية نورد هنا بعض النماذج باختصار من باب الذكر لا الحصر وذلك خشية التطويل :
1-مهارت الاستدلال الفكري
طريقة القرآن في النفي والإثبات وفي الاستدلال وفي الإقناع والمحاججة وفي البرهنة والتدليل فإننا نجده يستعمل نفس الطريقة فهو يشير إلى القوانين التي تحكم سير الأشياء ليجعل الإنسان يلمس ويحكم بأنه مفروضة على الكائنات وأنها من الخالق (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)(سورة البقرة:الاية 258، فالحواس تنقل لنا صور الواقع المادي المختلفة والعقل حصلت لديه معلومة أن المادة تسيرها قوانين ثابتة، والآية تثبت كون هذه القوانين مفروضة على المادة، ليقرر العقل ببساطة أن الذي فرضها هو الذي خلق الكون والإنسان والحياة، أي خالق المادة بمختلف أشكالها وصورها
2-التامل في العواقب
أن القرآن يلزمنا بالطريقة التي لو صح استعمالنا لها لصانتنا من الانحراف والزلل ومجانبة الحق والصواب ولجنبتنا ورود جهنم لقوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) سورة الملك الاية 10، فعدم استعمال عوامل الفكر استعمالاً صحيحاً يجعل الناس يتصرفون ويسيرون بشكل خاطئ، لأن أفكارهم لم تبن حسب طريقة صحيحة في التفكير فلم يكن بد من الانزلاق والانحراف الفكري والكفر، يقول المولى عز وجل: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)سورة الروم الاية 7، ويقول: (يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ)سورة محمد :الاية 12
3- الاستدلال العقدي
وهنا لا ينبغي أن ننسى إصرار القرآن على استعمال الطريقة العقلية في التفكير في بحث العقائد وفي الاستدلال على العقيدة الإسلامية، فالقرآن أخضع المادة بأنواعها وأشكالها ومختلف صورها للبحث العقلي، وبين زيف وباطل عقائد الشرك والكفر لعدم قيامها على البديهيات والمسلمات العقلية، ومن خلال تسليطه الطريقة العقلية في بحث المادة ومن خلال بيانه مطابقة تلك الأبحاث للمسلمات العقلية، بهذا أثبت القرآن مفاهيم العقيدة الإسلامية وليس هذا فقط بل أصر القرآن على جعل مفاهيم العقيدة إطار لأوامره ونواهيه أي للحلال والحرام حتى يثبت كون العقيدة قاعدة فكرية وقيادة فكرية وأساس وجهة النظر في الحياة، ذلك أن طريقة التفكير العقلية تفترض وجود قواعد وأسس لكل عملية بناء، وهي لا بد أن تكون صحيحة صلبة ومتينة حتى يكون البناء كله سليماً مهما علا وسما، وهذه الطريقة نفسها تفترض وجود انسجام في الهيكلية العامة وفي المظهر الخارجي وفي البناء العضوي، وبذلك ينبثق النظام عن العقيدة وتبنى كل الأفكار عليها وتأخذ كل الأفعال حكمها منها وتكون الأحكام الشرعية ثمرة من ثمرات الإيمان. ولو حاولنا عرض نموذج من القرآن الكريم (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)سورة الرعد الاية 2 وهذا النموذج ليس حصيرا فهناك عشرات الايات في ذلك لايتسع المقام لذكرها
4-بناء العمل على الفكر
أما جعل العقيدة قاعدة فكرية فإن كل آيات الأحكام يفهم منها (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)(سورة التوبة الاية 109، فالبناء الذي لم يؤسس على أسس وقواعد صحيحة وصلبة فإن مآله إلى الانهيار، وقد أورد القرآن أمثلة كثيرة (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ)(سورة ال عمران الاية 117
5-خوض تجربة فكرية
هكذا تتوضح لنا طريقة القرآن في النفي والإثبات والنقض والتدليل، في الهدم والبناء، في البرهنة والمحاججة في العقيدة والأنظمة، بأنها الطريقة العقلية والمتمثلة في ربط الواقع بالدماغ عن طريق الحواس ووجود معلومات سابقة تفسر ذلك الواقع، وليس هذا فقط فالقرآن لم يكتف بتفكير سطحي بالمادة ومعلومات سطحية عنها ليقرر أفكاراً ويني أحكاماً، وإنما بحث المادة بعمق واستنارة وارتكز على معلومات سابقة سلم العقل بصحتها مما جعل التفكير من خلال القرآن الكريم تفكيراً فيه استنارة وبالنسبة للطريقة العقلية نفسها فإن العمق الاستنارة في بحث المادة وفي التنقيب عن أصح وأرقى المعلومات كأصل يجعلنا ننبذ التفكير المادي الذي يحصر بالمادة ولا يهتم بالأفكار الكلية المتعلقة التي تربطها بغيرها ومنها الناحية الروحية فيها، وكذلك يلاحظ من استقراء القرآن الكريم ومن خلال فهمنا طريقته العقلية في الاستدلال أن الواقع يبحث ويفهم ويخضع للتفكير وأنه لا يمكن بالتالي أن يتخذ كأساس وكقاعدة للتفكير ولو كان هذا الواقع صحيحاً سليماً بمعنى أن أفكار العقيدة وتصوراتها هي الأساس وهي القاعدة والأفكار والأحكام تؤخذ بناء على مطابقتها أو مخالفتها لما تقول به العقيدة لا باعتبار أنها واقع متأصل في حياة الناس وهنا القران يقص علينا تجارب الانبياء للوصول للحقيقة مثلا إبراهيم عليه السلام ﴿رب أرني كيف تُحيي الموتى﴾ فيُقال له ﴿فخذ أربعةً من الطير فصُرهنَّ إليك﴾ سورة البقرة الاية 260 …. نكتفي بهذا القدر للاختصار في المقام ونترك للقارء الكريم متعت الحصول على مهارة التفكير من خلال التدبر في ايات القران فان نفس التدبر والبحث مهارة امرنا الله بها ليزيد من قدرتنا على التفكير ويبني بناء فكريا سليما والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وال بيته الطيبين الطاهرين