شرح رسالة الحقوق للإمام زين العابدين ( ع )، ج ١، السيد حسن القبانچي
https://ablibrary.net/#/reading/booklist/10504/13
حقّ اللّه
قوله عليه السّلام :
« فأمّا حقّ اللّه الأكبر عليك ، فأن تعبده لا تشرك به شيئا ، فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل اللّه لك على نفسه أن يكفيك أمر الدّنيا والآخرة ، ويحفظ لك ما تحبّ منهما » .
مبحث طالما أشفقت أن أتحدث عنه ، إن حسّي ليفعم بمشاعر ومعان لا أجد لها كفاء من العبارات ، ولكن لا بد من تقريب المشاعر والمعاني بالعبارات .
هذه الظاهرة الخالدة التي رسمها الإمام عليه السّلام ووضع خطوطها ، ظاهرة نجد فيها لمسات وجدانية متتابعة ، تنتهي كلها إلى هدف واحد : إشعار النفس البشرية بتوحيد اللّه وصدق الرسول ، ويقين اليوم الآخر والقسط في الجزاء .
لمسات تأخذ النفس من أقطارها ، وتأخذ بها إلى أقطار الكون في جولة واسعة شاملة ، جولة من الأرض إلى السماء ، ومن آفاق الكون إلى آفاق النفس ، ومن ماضي القرون إلى حاضر البشر ، ومن الدنيا إلى الآخرة .
إنها جملة من اللمسات العميقة الصادقة ، لا تملك نفس سليمة التلقي ، صحيحة الاستجابة ، ألا تستجيب لها ، وألا تتذاوب الحواجز والموانع فيها .
تحمل هذه اللمسات من المؤثرات النفسية والعقلية ما لا يحمله أسطول من مدمرات الشرك والانحراف والفسوق ! .
وقد استهل الإمام ( روحي فداه ) رسالته بحق اللّه تعالى إذ هو أعظم الحقوق وأجلها ، فلذلك يجب أن يؤدى كاملا ، بأن يعبد وحده دون سواه .
يعبد وحده بلا شريك ، لأنه وحده المستحق أن يعبد دون غيره .
ومثل هذه العبادة تهيمن على الشعور والسلوك ، فهي منهج كامل للحياة يشمل تصور الإنسان لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، ولحقيقة الصلة بين الخلق والخالق ، ولحقيقة القوى والقيم في الكون وفي حياة الناس . . ومن ثم ينبثق نظام للحياة البشرية قائم على ذلك التصور ، فيقوم منهج للحياة خاص . منهج رباني مرجعه إلى حقيقة الصلة بين العبودية والألوهية ، وإلى القيم التي يقررها اللّه للأحياء والأشياء .
وفي هذا الخط العريض نرى الإمام عليه السّلام يدعو إلى العبادة التي تتخلص فيها الديانة السماوية على الإطلاق . يدعو إلى العبادة بإخلاص ، فقد تكون العبادة ولا يكون معها الإخلاص ، وهذا اللون من العبادة غير نافع ، إنما الإخلاص والعزم والجد والمثابرة – هذا كله – هو المدار في كل الأعمال والعبادات وغيرها من الأمور .
ودعوة الإمام هذه إلى العبادة هي نفسها محض الإخلاص ، تبتغي وجه اللّه وترجو فضله . وهي في الواقع مستمدة من المنبع المعين الذي لا يغيض ، مستمدة من القرآن الكريم . فالقرآن تكاد تغلب عليه صبغة الدعوة المخلصة إلى اللّه تعالى وعبادته ، والإيمان به وحده دون من عداه .
القرآن يدعو الناس ويلح في دعوته إلى أن يعملوا من أجل التوصل إلى العبادة بإخلاص . وأن يضربوا في الأرض إن كان التوصل إلى العبادة متوقفا على هذا الضرب في الأرض .
القرآن يكثر التأكيد على أن الذين يترددون في إيمانهم فهم غير رابحين وأن الذين يشركون مع اللّه إلها آخر فليسوا مفلحين . بينما يؤكد في نفس الوقت على أن الذين آمنوا باللّه ودخل الإيمان قلوبهم وأسلموا وأنابوا فأولئك يغفر اللّه لهم ويتجاوز عنهم ويبدل سيئاتهم حسنات ، ويجعل لهم عنده مقاما محمودا ومنزلة عليا تجاه ما أتوه من عمل ، وما قدموه بين أيديهم من معروف .
* * إن حقيقة العبادة تتمثل في أمرين رئيسين :
الأول : هو استقرار معنى العبودية للّه في النفس ، أي استقرار الشعور على أن هناك عبدا ، وربا ، عبدا يعبد ، وربا يعبد . وأن ليس وراء ذلك شيء ، وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار . ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود ، وإلا رب واحد والكل له عبيد .
والثاني : هو التوجه إلى اللّه بكل حركة في الضمير ، وكل حركة في الجوارح ، وكل حركة في الحياة . التوجه بها إلى اللّه خالصة ، والتجرد من كل شعور آخر ، ومن كل معنى غير معنى التعبد للّه .
والعبادة ليست طاعة القهر والسخط ، ولكنها طاعة الرضا والحب . وليست طاعة الجهل والغفلة ، ولكنها طاعة المعرفة والحصافة ! .
قد تصدر الحكومة أمرا بتسعير البضائع ، فيقبل التجار كارهين . أو أمرا بخفض الرواتب ، فيقبل الموظفون ساخطين . . .
وقد تشير إلى البهيمة العجماء فتنقاد إليك لا تدري إلى مرتعها أم إلى مصرعها .
تلك أنواع من الطاعات بعيدة عن معنى العبادة التي شرع اللّه للناس . فالعبادة التي أجراها اللّه على الألسنة في الآية الكريمة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ « 1 » ، والتي جعلها حكمة الوجود وغاية الأحياء في قوله : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ « 2 » تعني الخضوع المقرون بالمعرفة والمحبة . أي الناشئ عن الإعجاب بالعظمة والعرفان للجميل . . .
إن العبادة شعور مكتمل العناصر ، يبدأ بالمعرفة العقلية ، ثم بالانفعال الوجداني ، ثم بالنزوع السلوكي .
فالصورة الأخيرة ثمرة ما قبلها .
وهذا هو الوضع الصحيح لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وإحسان الخلق وقول الحق . وسائر العبادات الأخرى .
إن العبادة الأولى في الإسلام ، هي معرفة اللّه معرفة صحيحة ، والعقل المستنير بهذه المعرفة ، هو القائد الواعي لكل سلوك صحيح ، والأساس المكين لكل معاملة متقبلة .
ويوم تتلاشى هذه المعرفة من لب الإنسان ، فلن يصح له دين ، ولن تقوم له فضيلة .
المعرفة الصحيحة للّه تهوّن من قيمة الأخطاء التي يتورط فيها المرء ، إذا كانت أخطاء عارضة ، أو خدوش سطحية .
أما الجهل باللّه ، فهو الخطيئة التي لا تغتفر ، ولا يصلح معها عمل . ومن ثم يقول اللّه تعالى في كتابه : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً « 3 » . ذلك أن الشرك دلالة جهل غليظ باللّه عز وجل .
وقد اطردت آيات القرآن تبني سلوك الناس على المعرفة باللّه ، وتريهم صحائف مشرقة من خلقه البديع وفضله الجزيل . وتمزق ما نسجته الغفلة على الأعين من جهالة وجحود .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ ( 32 ) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ( 33 ) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( 34 ) « 1 » .
ذلكم أسلوب القرآن في تعريف الناس باللّه . إنه أسلوب يقيمهم على عبودية الحب والتفاني لا على عبودية التحقير والهوان ، عبودية الإعجاب بالعظمة والإقرار بالإحسان ، لا العبودية المبهمة التي تصادر الإرادة وتزري بالإنسان .
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ « 2 » .
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ « 3 » .
إن هذا التساؤل المتواصل السريع يفتح على النفس آفاقا بعيدة من الإيمان الذكي ، ويجعلها تهرع إلى اللّه متجردة تنفر من شوائب الشرك نفور الرجال من عبث الصبية .
إن الشرك موت ، وإن الإيمان حياة .
إن الشرك ظلمة ، وإن الإيمان نور .
إن الشرك ضيق وعسر وقلق ، وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة في الصدور .
إن الشرك انقطاع عن منبع الحياة الأزلية الخالدة التي لا تفنى ولا تغيض ، فهو موت وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الكون ، فهو موت وجفاف من نداوة الإيمان
وبشاشته ونتاجه ، فهو موت وفناء في هذه الحياة الدنيا بلا تطلع للحياة الباقية ، فهو موت وتعطيل للمشاعر والمدارك والحواس عن التأثر والاستجابة .
وإن الإيمان اتصال واستمداد ونداوة وامتداد وفاعلية واستجابة ، فهو حياة بكل معاني الحياة .
إن الشرك تغطية وحجب للروح عن التطلع والاطلاع ، فهو ظلمة . وختم على الجوارح أن ترى وتسمع وتحس ، فهو ظلمة وتيه في الطرق المتعرجة وضلال ، فهو ظلمة .
وإن الإيمان تفتح ورؤية وإدراك واستقامة على الطريق ، فهو نور بكل مقومات النور .
إن الشرك انكماش وتصلّب وتحجر فهو ضيق ، وشرود عن الطريق السوي الواصل فهو عسر ، وحرمان من الاطمئنان إلى القوة الكبرى فهو علق .
وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة ، ترحم هذا المخلوق الإنساني الضعيف .
وما المشرك ؟ إن هو إلا نبتة ضالة لا وشائج لها ولا جذور ؟ إن هو إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود ، فهو منقطع الصلة بالوجود ، لا تربطه به إلا روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود .
إن الصلة باللّه والصلة في اللّه لتصلان الفرد الفاني بالأزل القديم والخلود الدائم ، ثم تصلانه بالكون الحادث والحياة المديدة ، ثم تصلانه بالإنسانية كلها ذات الإله الواحد ، والدين الواحد ، والاتجاه الواحد ، والعبادة الواحدة فهو في ثراء من الوشائج ، وفي ثراء من الصلات ، وفي ثراء من الوجود الزاخر الممتد الذي لا يقف عند عمره الفردي المحدود .
ألا إن الشرك موت في كل صورة من صوره ، ولكن موتى المشركين لا يشعرون بما هم فيه من موت مقيم .
وهل أحمق من رجل يسكن عمارة ضخمة ، فإذا به يتوهم أن سلال القمامة المبعثرة فيها ، هي التي قامت على بنائها ؟ .
أليس هذا مثل الوثنية المخرفة ، التي ترد مظاهر الوجود إلى بعض الجماد ، أو الحيوان أو الإنسان ؟ .
ومثل الطبيعة التي ترد نظام الكون البديع ، وإحكام صنعه العجيب الباهر إلى الطبيعة العمياء ، عديمة الحس والشعور ؟ .
- * * قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « إن اللّه تبارك وتعالى أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات ، أن يعمل بها ، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها . وإنه كأنه كاد أن يبطىء بها . فقال له عيسى عليه السّلام : إن اللّه أمرك بخمس كلمات أن تعمل بها ، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها ، فإما أن تأمرهم بها وإما أن آمرهم أنا بها . فقال يحيى : أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب . . فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ المسجد وقصدوا على الشرف فقال : إن اللّه أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وأن آمركم أن تعملوا بهن ، أولهن أن تعبدوا اللّه لا تشركوا به شيئا ، فإن مثل من أشرك باللّه كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق ، وقال : هذه داري وهذا عملي فاعمل وأدّ إلي . فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده ! فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك ؟ .
وإن اللّه تعالى أمركم بالصلاة ، فإذا صليتم فلا تلتفتوا ، فإن اللّه ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت .
وأمركم بالصيام ، فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك كلهم يعجبه ريحها ، وإن ريح الصائم أطيب عند اللّه من ريح المسك .
وأمركم بالصدقة ، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يديه إلى عنقه ، وقدموه ليضربوا عنقه ، فقال : أنا أفدي نفسي منكم بالقليل والكثير ، ففدى نفسه منهم .
وأمركم أن تذكروا اللّه ، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا ، حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم . وكذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر اللّه تعالى .