
بقلم الدكتورة مواهب صالح مهدي – كلية العلوم الاسلامية – جامعة كربلاء
جدليات الفكر بين التراث والحداثة
1-جدلية العقل والنص
إذا نظرنا إلى العلاقة الجدلية بين العقل والنص وآليات تفاعلهما لإصلاح الحياة بعيدا عن ادعاءات وتجاوزات الطرح الحداثي لهذه الإشكالية نلمس عجز العقليتين التراثية والوضعية عن إحداث النقلة العملية المطلوبة للنهوض بالأمة وتجاوز حالة الجمود والتراجع الحضاري .
جوهر الخلاف حول العقل عند التراثيين والوضعيين ، في المبادئ والتصورات والمفاهيم في إطار العقلية التراثية والعقلية الوضعية ومنهجيات التفكير التي تحكمها نطمح إلى تجنب الرؤية الأحادية الثاوية فيهما والاستعاضة عنهما برؤية توحيدية تربط العلوي بالتجريبي والمعياري بالوضعي . وهي رؤية تسعى إلى التكامل المعرفي وتستقي مبادئها المعرفية من نصوص الوحي الذي يحدد المعنى الكلي للوجود و تحديد أسس التفكير السليم التي يمكن من خلالها إعمال العقل لفهم ثوابت الواقع الطبيعي والاجتماعي ومتغيراته ولتوظيف الفهم المتحصل لتطوير الحياة الإنسانية والارتقاء بها في معارج الكمال العلمي والتنظيمي الوجداني .
إن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي تتابع اليوم على أمتنا هي في جوهرها أزمة عقل مستقيل تصلبت منهجيات تفكيره وفقد القدرة على الفعل والتأثير
2-جدلية بنية العقل ومصادره
يعاني العقل الوضعي من إشكالية استقلاله عن الوحي . وهذا ما ابتليت به العلمانية العربية ودراسات نقد التراث وينكشف الخلل في تبنيها لأحكام عقلية مكتسبة من تجربة تاريخية لثقافة مغايرة وتعميتها وتجاهلها للدور الذي لعبه الوحي في تشكيل العقل المنهجي العلمي . ان النقد العلماني للتراث يكشف عن المغالطات والمجازفات التي تورط بها دعاة العلمانية . لانها مستقاة من محددات العقل الوضعي عند الفلاسفة بدءا من اليونان وحتى عصر النهضة في أوروبا . بنية العقل ومصدره هو لب الخلاف والنزاع بين مختلف الاتجاهات الفكرية والمتمثل في وجود مبادئ نظرية ضرورية عقلية يتمكن العقل من خلالها الحكم بالصدق أو الكذب على الأحكام الإجرائية ومعطيات الواقع الكلي عند تحليل الثقافة ودور الرؤية الكلية في تشكيل أحكام العقل نصل إلى النتيجة الهامة وهي أن التجديد الثقافي يرتبط بإعادة النظر في مصداقية المبادئ والأحكام العقلية المكتسبة وذلك بإعمال مبادئ العقل الفطرية فيها لاكتشاف مواضع الخلل والتناقض الداخلي . ومقارنة الأحكام الموروثة بالأحكام المتولدة عن رؤية أصلية للواقع الكلي .
3- جدلية تعارض العقل والنقل
أن إشكالية التعارض بين التراث والحداثة ما هي إلا مشكلة تعارض بين عقليتين، عقل تراثي مكبل بالقرائن اللفظية والدلالات التاريخية للنصوص، وعقل تكاملي يفهم النص ضمن سياقه الخطابي والحالي ويسعى لتحديد مقاصده الكلية وربط بالمقاصد العامة للخطاب .
وتتعلق الإشكالية بتحديد الكيفية الواجب اتباعها لتجاوز التعارض أو التناقض بين الأحكام الفعلية والنقلية حال قيامه . ومن جهة أخرى فإن الإشكال لا يتعلق بالتشكيك في أهمية الوحي والعقل لتوجيه الحياة البشرية بل يتعلق بتعارض عقليتين أو منهجين في الاستدلال والتفكير وأولويات المصادر وللخلاص من هذه الجدلية يجب طرح المسألة في إطار العقل التكاملي الذي يعتمد على الرؤية القرآنية والخبرة الإنسانية العملية . هذا العقل الذي أرسى صرح حضارة إسلامية عظيمة ثم تراجع واضمحل ليخلي مكانه لعقلية تراثية تقليدية .
4- بنية العقل التراثي
المخزون العقلي التراثي يبنى من الكتاب والسنة بين الرؤية القرآنية والمنهجية النصوصية. وتتحدد الرؤية القرآنية بأنها القواعد العامة والمقاصد الكلية المستمدة من الكتاب والمنتظمة ضمن أنساق تحقق ترابطها الداخلي وترتبها ضمن هرم قيمي يميز أوليها من ثانويها .
أما السنة فهي في المقام الأول نماذج تطبيقية للرؤية القرآنية التي استنبطها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وتجلت في سلوكه ومواقفه. واتباع السنة لا يتحقق بمجاراة أفعال الرسول دون فقه دواعيها ومقاصدها بل يتطلب استلهام المبادئ وإعمال الرؤية القرآنية التي وجهت سلوكه ولو أدى ذلك إلى مخالفة ظاهر فعله .
ان التطور التاريخي لعلاقة السنة بالقرآن وكيف وصل الحال بالمتأخرين إلى اعتبار السنة أصلا مستقلا ومكافئا للقرآن هونتاج جهود جمع الحديث وتحقيق صحيحها من سقيمها من تكديس المنهجية النصوصية والتي تحاول رد الأحداث المستجدة إلى نصوص الأحاديث مما أدى إلى توقف إعمال العقل في النص وتراجع الاجتهاد عند اتباع السنة المتشددين في قبال مجموعة اخرى اعتمدت منهجية القياسي التي تحاول استعادة روح منهج القواعد الفقهية الذي بدأه العلماء من أمثال ابن عبد السلام والسيوطي والسبكي والشاطبي في مواجهة هيمنة المنهجية النصوصية .
اما اتباع مدرسة اهل البيت فعمدوا إلى الاستعانة بمجموعة علوم مثل علم أصول الفقه للوصول إلى الفهم الكلي كمنهجية تضبط حركة العقل الرامية إلى فهم دلالات النص وتخرج مناط الحكم الثاوي فيه ومن ثم تحقيقه على أرض الواقع ضبطا لا يؤدي إلى إقالة العقل أو تكبيله و إعماله في الوقائع بنوعيها الطبيعي والاجتماعي الإنساني .
5- بين العقل والعلة
العلاقة بين العقل وقانون السببية ودور العقائد والغيبيات في تحديد هذه العلاقة . ينقل الإنسان من عالم الكهانة والشعوذة إلى عالم البحث العلمي والمعرفي عندما خلصته من التصور السحري للطبيعة وزودته بتصور علمي لها .
وفي مسيرة الحضارة الإسلامية عندما حاول المتكلمون المسلمون التصدي لشطحات وأوهام الفلسفة اليونانية في هذا الباب لم تلبث هذه المحاولة أن تحولت إلى صراع بين الفلاسفة المسلمين والمتكلمين أدى إلى القضاء على معظم العلوم التي طورها المسلمين بناء على عطاء حضارات سابقة بشقيها الغيبي والطبيعي .
عند رصد رحلة العقل بين الغزالي وابن الرشيد والمتكلمين نلمس الإرباك الذي حصل للبناء العقلي عندما حاول تأكيد طلاقة المشيئة الإلهية بما يعود على قانون السببية ومنهجية العلوم بالتضييع والتمييع . هناك ضرورة للإقرار بالسببية ومناقشة ما دار حولها من كلام وتناول قواعد وأنساق الحركة العقلية في دراستها للنظام الطبيعي وتطوير العلوم الطبيعية .والاقرار بمحدودية المنطق الصوري اليوناني والانتباه إلى نتاج العلماء المسمين لطرائق الاستقرار والتي اقتصرت على العلل الفقهية لاستنباط الأحكام في حين عكف علماء المسامين للاستقراء في المجال الطبيعي عن طرق الاستدلال التجريبي وأزمنة العقل الوضعي الذي حاول حصر المعرفة بالتجربة الحسية. ليصل بنا إلى النتيجة الهامة التي تربط الواقع المحسوس بالجهد الذهني المتمثل بآليات الاستقراء والاستنتاج والتجريد للتمكن من تكوين إدراك جوهري للبنية الداخلية للواقع المحسوس .
6- بين القيم والمنهج الاسقاطي
هناك جدلية اخرى بين منهجيات التنظير الاجتماعي بين المنهج الوضعي الذي يتجاهل التصورات والقيم وأثرها في حركة التطور الاجتماعي والسياسي وبين المنهج الإسقاطي الذي ينطلق من الالتزامات القيمية والأخلاقية دون اعتبار بنية الواقع وآليات التغيير الاجتماعي .
ويمكن الخلاص من هذه الجدلية في هذا الإطار بتحديد الطبيعة الفريدة المتميزة للسلوك البشري وافتراقه وتميزه عن سلوك الجماد والحيوان واختلاط الخصائص العضوية والطبيعية بالخصائص النفسية والروحية التي تعطيه القدرة على التحرر من الضرورات الطبيعة . كذلك افتراق السلوك الفردي عن الثقافة الجماعية التي تحدد القواعد السلوكية المشتركة .
ولذا نرى الشهيد الصدر من منهجيته دعا إلى دراسة التاريخ وعلاقتها بالظواهر الاجتماعية في محاولة لاكتشاف ولتأسيس علم الاجتماع الإنساني على المقدمات الغيبية والوقائع التاريخية.
إذا غصنا في عمق التاريخ لوجدنا ان ابن خالدون يتحدث عن النظام الغربي الذي كان مستغرقا بالوضع الوضعي السائد الذي يتجاهل البعد الروحي والأخلاقي وتمنى إلى أضاف بعدا معياريا يعتمد الواقع الراهن كمرجع للصلاحية مما ينطوي على موقف استراتيجي يطمح إلى الاحتفاظ بالموقع المهيمن للمجتمع الغربي وقطع الطريق على الجهود الرامية إلى تطوير بدائل حضارية وأشكال اجتماعية مغايرة .
ورغم الخصوصية التاريخية للمنهجية الوضعية السائدة في الدراسات الاجتماعية الغربية ورفضها المرجعية التصورية والقيمية للوحي فإن جل الباحثين الاجتماعيين في العالم العربي والإسلامي يعتمدون مقاربات وضعية في دراساتهم للظواهر الاجتماعية .
وقد برزت في العقود الأخيرة أبحاث وكتابات المفكرين إسلاميين ترفض الرؤية العلمانية والمنهجية الوضعية ولكن الكثرة الغالبة لهذه الدراسات تبنت منهجية اسقاطية في تعاملها مع الواقع الاجتماعي هذه المنهجية التي تتجاهل البنية التفضيلية للمجتمع والتاريخ وتعتمد طرائق استنتاجية في البحث واستقراءات بسيطة للواقع الاجتماعي . مثل اطروحات سيد قطب في كتابه ” معالم في الطريق ” بما يوضح الخلل المنهجي في الغياب للتحليل الاجتماعي وآليات التغيير وقوانين حركة التاريخ .
ولذا فمن الضروري السعي إلى التكامل المنهجي في الدراسات الاجتماعية لتجاوز الطبيعة الاختزالية الثاوية في المنهج الوضعي والمنهج الاسقاطي . هذا المنهج التكاملي الذي يعتمد المقدمات العلوية التي تشكل الأساس المعياري للبحث العلمي ، ويعتمد استقراء المقاصد الكلية للفعل الاجتماعي الإسلامي والعمل على فهم طبيعة العلاقات الاجتماعية من داخلها وبناء نظريات وتطوير جهاز مفاهيمي يتحقق الاتساق الداخلي والقدرة على تفسير الوقائع الاجتماعية .
7-ترابط المنظومة
يجب تاسسيس أطروحة التربية العقلية بنظام مترابط متداخل يتجاوز الاختزال والنظريات الجزئية والاكتفاء بإعمال العقل في أحد نظم الوجود وإهمال النظم الأخرى . إن النهضة الثقافية والفاعلية الحضارية التي نطمح إليها لا تبنى إلا باعتماد النزعات العلوية التي تحفز الفرد والمجتمع إلى الجد والاجتهاد لتحقيق قيم العدل والعلم والتعاون والإحسان والتكافل لتتفاعل مع القدرات العقلية لتحويل المثل السامية إلى نماذج تنظيمية ووسائل عملية تتجاوز النظرات التجزيئية للعقل الوضعي والعقل التراثي على حد سواء.