د.علي محمد ياسين / كلية العلوم الاسلامية – جامعة كربلاء
طالما ترددت في الأوساط العلمية المعنية بالأدب العربي وفروعه مقولة مأثورة مفادها: إن البلاغة العربية علم احترق حتى نضج! وأن لا سبيل إلى تجديد أفانين هذا العلم الذي أُشبع درسا وتحليلا عند العلماء البلاغيين المتقدمين ممن لم يتركوا لا صغيرة ولا كبيرة، ولا شاردة ولا واردة في هذا العلم إلا وحاولوا الوقوف عندها واستقصاء كل جوانبها، كما فعل الجرجاني في أسراره ودلائله، وكما فعل السكاكي في مفتاح العلوم حينما حاول تقنين علوم البلاغة ببعد مدرسي تعليمي.
غير أن الواقع الذي تدعمه نظريات العلوم اللسانية والنقدية الحديثة أثبت زيف هذه المقولة التي ترددت أصداؤها كثيرا وأثبتت التجارب والبحوث والدراسات البلاغية خطلها وبعدها عن الصواب، فالبلاغة قادرة على أن تتجاوز قاعات الدرس وصولا إلى المجتمع، وإن حلم تطويرها – أي البلاغة العربية – هو شغل طالما شغل الدارسين قديما وحديثا، وإن مساحة هذا الحلم بين القدماء والمحدثين على ما فيها تجاذبات وتنافرات متنوعة لهي مساحة رحبة لكل مستحدث معرفي يقتل القديم فهما؛ ليستملك الجديد وإن كان وافدا من بيئات أخرى ومن لغات أخرى غير البيئة العربية .
ومع عصر النهضة العربية في العصر الحديث جاءت الدعوات إلى إعادة قراءة البلاغة العربية وتوظيف مداخلها المثمرة على وفق رؤية لا تتنكر لروح العصر, ولا تتنصل من الإرث العربي الزاخر والممتد عبر قرون طويلة، وقد ابتدأت محاولة إحياء البلاغة العربية وإعادة روحها التي خفتت في عصور الانحطاط ودهور الحكم العثماني المتردي على يدي علماء الأزهر الشريف، لا سيما على يد محمد عبده (ت 1905م) وتطبيقاته البلاغية المبسطة على بعض نماذج القول التي أتيح له عرضها وتحليلها لطلبته من دارسي العلوم الدينية قبل أكثر من قرن، فيما التفتت المحاولات اللاحقة إلى ضرورة تحديث مسائل هذا العلم وتجديد مفاهيمه ومنظوراته على يد جيل من العلماء المحتكِّين بالآخر الغربي والآمنين شره عبر معرفتهم للغته واتقانها اتقانهم للغتهم الأم، ومن هؤلاء جبر ضومط، وأحمد أمين وأحمد الشايب وطه حسين، وعلي الجارم، وأحمد مطلوب، والشيخ أمين الخولي.
وكان أمين إبراهيم عبد الباقي الخولي، المولود في أوّل حزيران سنة 1895م بقرية (شوشاي) بمحافظة المنوفية لأسرة مصريّة متوسطة الحال رائدا من رواد تجديد الدرس البلاغي في العصر الحديث، وقد حفظ الخولي القرآن الكريم وهو ابن عشر سنوات والتحق بمدرسة (لافيسوني) الابتدائية بالقاهرة ثمّ دخل مدرسة القضاء الشرعي حيث تخرّج بامتياز عام 1920م، ثم كوفئ بتعيينه مدرّسًا نظرا لتفوقه في دراسة القضاء الشرعي.
وشاءت الصدف أن ينتقل هذا العالم النبيه إلى روما إمامًا للبعثة الدراسيّة المصريّة ثمّ إلى برلين في المفوضية المصريّة هناك، فانتهز الفرصة لتعلّم اللغتين الإيطاليّة والألمانيّة مطّلعا على أغلب كتابات المستشرقين المهتمّين بالدراسات الإسلاميّة بلغاتهم الأصلية، ,وقد اختير الخولي سنة 1928م لتدريس العربيّة وآدابها بجامعة فؤاد الأوّل تشريفا له بالرغم من عدم حصوله على شهادة علميّة عليا تؤهّله لذلك، فيما كرم سنة 1946م بتتويجه رئيسا لهذا القسم، وبذلك كان الشيخ الخولي من المساهمين الأوائل بتمصير الجامعات في هذا البلد العربي الشقيق، ومن المراهنين على صناعة العقول داخل أروقتها.
وكان الخولي ناشطا في الحياة المدنية وفاعلا في الحياة الثقافية المصرية منتصف القرن الماضي، إذ أنشأ في الأربعينات برفقة عدد من طلبته ناديًا أدبيًّا باسم (الأمناء) من أجل الارتقاء بالأدب والفنّ نظريًّا وعمليًّا، ومن خلال هذا النادي نشر كتابين من كتبه الكثيرة الداعية إلى مبدأ التجديد في الفن والإبداع وفي الأعمال النقدية والبلاغية والأسلوبية التي تقرأ الأدب وتقوم أساليب تعبيره، أما الكتابان فهما: (مناهج التجديد في النحو والبلاغة والتفسير)، وكتاب (من هدي القرآن) وتأكيدا لدوره الناشط هذا فقد انتخب عام 1953م مستشارًا لدار الكتب، ثم شغل منصب مدير عام للثقافة المصريّة، وإثر تقاعده عام 1955م اختير عضوًا بمجمع اللغة العربيّة بالقاهرة.
و للخولي رأي في التجديد ملخصه: إن أول التجديد يبدأ من خلال قتل القديم فهمًا وبحثًا ودراسةً، أما إذا مضى المجدد برغبة في التجديد مبهمة، يهدم ويحطم ويشمئز ويتهكم؛ فذلكم تبديد لا تجديد، ومن هذا المنطلق تكللت مساعي الرجل بتطويع البلاغة العربيّة وإلانتها وتهذيبها لكي تكون (فنا للقول) يضبط من خلاله قيمة الإحساس بالتعبير البلاغي الجميل والتنبيه لدقة هذا الإحساس وخفاياه، فضلا عن الوقوف على الخبرة بالنفس البشرية التي يصدر عنها ذلك الإحساس.
ولما كانت الدراسات القرآنية هي الحاضنة الطبيعية التي نشأت من خلالها كل فروع الدراسات اللغوية والبلاغية، فقد كان النص القرآني بنماذجه التعبيرية الفذة هو المرتكز الذي بنى عليه الخولي منهجه التجديدي الذي أسماه ( التفسير البياني للقرآن) بهدف إظهار الإعجاز البلاغي للقرآن وكشف مراميه البعيدة والقريبة، لا سيما بعد أن وجد أن جل ما كتبه العلماء السابقون في هذا الغرض من التفاسير محكوم في معالجته للنص القرآني من منطلق دعوي وتراثي، الأمر الذي وسم جهود أولئك العلماء بتكلّف المنافحة عن القرآن والإسلام لغايات دفاعيّة بحتة فرضتها ظروف معينة وخاصة مقصية الجانب البياني اللغوي كأحد أهم جوانب القرآن المعجزة على الإطلاق.
ولقد وصف الخولي منهجه الجديد في البلاغة العربية التي دعا إلى وصلها بعلمي الجمال والنفس– بقوله عنه – هو منهج : أتعرف من خلاله على معالم الدراسة الفنية الحديثة عامة، والأدبية منها خاصة، وأرجع إلى كل ما يجدي في ذلك، من عمل الغربيين، وكتبهم، وأوازن بينه وبين صنيع أسلافنا، وأبناء عصرنا في هذا كله، وكانت نظرتي إلى القديم – تلك النظرة غير اليائسة – دافعة إلى التأمل الناقد فيه، وإلى العناية بتاريخ هذه البلاغة، أسأله عن خطوات سيرها، ومتحرجات طريقها، لأستعين بذلك على تبين عقدها، وتفهم مشكلاتها، ومعرفة أوجه الحاجة إلى الإصلاح فيها، وكنت أقابل القديم بالجديد، فأنقد القديم، وأنفي غثّه، وأضم سمينه إلى صالح جديد؛ لذا قاربت أن أفرغ من النظر في القديم، بعدما ضممت خياره إلى الجديد، فألفت منها نسقاً كاملاً، يُرجى أن يكون دستور البلاغة في درسها. وهكذا ظلت دعوات الخولي العلمية لا تعرف التوقف مثلما ظل هاجس الارتباط بالواقع الحضاري وحب الحياة التي كانت هي ومرادفاتها من أكثر الكلمات دورانا في كتاباته هو النسق المهيمن في جهود هذا الشيخ الجليل حتى رحل عن هذا العالم في العام 1966م فتوسّد التراب بقريته الصغيرة (شوشاي).