الدكتور محمد حسين عبود / كلية العلوم الإسلامية / جامعة كربلاء
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا وحبيبنا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين.
بعث الله الأنبياء والمرسلين مبشرين ومنذرين ,وأرسل بين أيديهم الكتب الإلهية كدلائل وحجج ,تكشف عن حقيقة أنهم رسل الله , وعن كنه رسالاتهم, وهي التوراة والإنجيل والزبور, وآخرها القرآن الكريم , ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, كتاب أٌحكمت آياته من لدن حكيم خبير, أنزله الله معجزة قائمة دائمة مادامت السموات والأرض ,تضمّنت سنن المرسلين ,واحتوت تجارب الأولين ,واختزلت حضارات الأمم وعطائها, ولمّا يزل كتاب الله حيا يتنفس بين الخلائق يغرفون من نميره بحسب استعداداتهم .
ولعل من جملة ما أفاض به علينا كتاب الله , وأشرقت به آياته هو مفهوم الاعتدال , الذي يمكن القول أنه يشّكل محورية مهمة في جملة المعاني والأهداف القرآنية ,التي يسعى كتاب الله لغرسها وتجذيرها في عقول الناس ؛لما لها من دور مهم وأثر كبير في تهذيب النفوس وتنقية الأفكار من أدران التطرف والتشنج ,وتحقيق أفضل نسبة من الاستقرار والاطمئنان اللتان تسعى لهما البشرية على الدوام ,وقد ورد مفهوم الاعتدال في القرآن الكريم بمستويات مختلفة, وقبل الكشف عن العلاقة الجامعة بين الاعتدال والاقتصاد, لا بد للبحث من بيان الأهمية المنطوية على مفهوم الاعتدال, وفقا للمستويات التي تبناها البحث, وطبقا للآيات التي استشهد بها ,فعلى المستوى الفكري قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً))سورة البقرة/143, أي كذلك جعلناكم أمة في حالة من الاعتدال ، والتوسط لا يشوبها إفراط ولا تفريط في كل جوانب حياتها, والآية وإن كانت تؤكد أن الاعتدال إنما جاء بنحو الجعل الرباني ,وهو لون من ألوان التكريم الإلهي الذي منحه الباري جلّ شأنه لهذه الأمة, غير أنه يمكن أن تستبطن الآية معنيين: المعنى الأول: هو الدعوة للأمة بالكون والاستمرار على هذا النحو من الجعل وهو الاعتدال وبكل أحوالها؛ لتستحق أن تكون في مقام الشهادة على سائر الأمم, وبعبارة أخرى إن الوسطية والاعتدال سبيل وسبب للشهادة ؛ والمعنى الثاني: هو الدعوة لكل فرد من أفراد الأمة لأن يتمثل بخلق الاعتدال ؛لأن الأمة هي مجموعة من الأفراد ولا يُتصور أن يتحقق الاعتدال أو أي أمر حسن من غير تظافر للجهود بين أبنائها ؛ لذا قيل أن : الناس ثلاثة : رجل شغله معاشه عن معاده فهو من الهالكين ، ورجل شغله معاده عن معاشه فهو من الفائزين ، والاقرب إلى الاعتدال هو الثالث الذي شغله معاشه لمعاده فهو من المقتصدين , ولن ينال رتبة الاقتصاد من لم يلازم في طلب المعيشة منهج السداد.
أما على المستوى الاقتصادي فقد كان الاعتدال حاضرا في جملة آيات , منها:
أولا: قوله تعالى: ((وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وكـــان الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا))سورة الإسراء /26ــ27: وقد ورد أنها نزلت في كل من كان يسأل النبي (صلَّى اللَّه عليه وسلَّم) من المساكين ، وتأمره بالإنفاق من غير تقتير ولا بسط يد ، فموضوعها الإحسان إلى ذوي القرابة والمساكين وأبناء السبيل ، والاعتدال في الإنفاق من غير إقلال ولا إسراف, أي أن الإنفاق بشكل عام ينبغي أن يكون بعيدا عن كل نوع من أنواع الإسراف والتبذير ,و بتعبير آخر : إن التبذير هو هدر المال في غير موقعه ولو كان قليلا ، بينما إذا صُرف في محله فلا يعتبر تبذيرا ولو كان كثيرا.
والواقع إن موضوع الآية يضع الأسس السليمة في الحفاظ على الموارد البشرية ,كما أنه يشّخص التبذير كواحد من أهم أسباب إهدار الطاقات والثروات ,ويعرض الحلول والمعالجات لأهم الأسباب والدواعي التي تشارك في تهديد ما يمكن تسميته بالأمن الغذائي ؛ لذا ترى الدول والحكومات تبذل جهودا جبارة في ترشيد الاستهلاك لأنواع الثروات حتى المياه التي تشكل نسبتها ثلاثة أرباع الكرة الأرضية , فراحت تبني السدود للحفاظ عليها , كما أن الآية تكشف عن أن الشريعة الاسلامية سبقت كل الأنظمة والقوانين والحضارات من خلال توجيه التعامل باعتدال مع أنماط البيئة المختلفة عبر تقبيح التبذير بكل معانيه, في وقت كانت البشرية بصورة عامة والجزيرة العربية التي تشكل الوعاء المكاني للدعوة الاسلامية بشكل خاص, منكفئة على الظلمات غارقة بألوان التخلف .
لقد جرت السنة العملية للنبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) في تحقيق معنى الاعتدال والنهي الاسراف ,فعن عبد الله بن عمرو بن العاصي ان النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال ما هذا السرف يا سعد قال أفي الوضوء سرف قال نعم وان كنت على نهر جار ,وعن تفسير العياشي عن بشر بن مروان قال : دخلنا على أبي عبد الله عليه السلام فدعا برطب فأقبل بعضهم يرمي بالنوى ، قال : وأمسك أبو عبد الله عليه السلام يده فقال : لا تفعل إن هذه من التبذير ، والله لا يحب الفساد.
ولا يخفى ما في تعبير الامام الصادق(عليه السلام):( والله لا يحب الفساد), من تصريح واضح بخطورة التبذير وما يترتب عليه من تضييع للطاقات.
ثانيا: قوله تعالى:((وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا))سورة الاسراء/29: إذ ورد في تفسير قوله : ولا تبسطها كل البسط أراد به اليد التي لا تمسك شيئا في قبال التي تمسك كل شيء , ونهاية هذه وتلك واحدة ، وهي الحسرة والملامة ، فالمسرف يعّض يد الحسرة والندامة ملوما عند اللَّه والناس ، وعند نفسه أيضا حين يصبح صفر اليدين ، والبخيل مذموم على كل لسان ، وحسرته غدا أشد وأعظم من حسرة المسرف ، وخير الأمور الوسط, أي الاعتدال في البذل والعطاء , وقد ورد عن ((ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) قال : فضم يده وقال : هكذا ، فقال : ( ولا تبسطها كل البسط ) وبسط راحته وقال هكذا , بالتالي فالآية بصدد تنظيم السلوك الإجتماعي المالي الفردي القائم على أساس العطاء ,ولكن ضمن ضوابط تحفظ حقوق السائل والمسؤول على حد سواء, ومع أن الآية تتعلق بهذا الجانب فحسب ,بيد أنه من الممكن أن ينطلق منه المجتمع من خلال توظيف المراد منها في تنظيم مجمل السلوكيات الاقتصادية العائدة للفرد والمجتمع.
ومن نافلة القول إن وصف القرآن بـ (ملموما محسورا) ,لا يخلو من إشارة واضحة على حجم الندم الذي سيتعرض له من تعثّر في ترتيب عملية الإنفاق ,التي لا تكون منطوية تحت طائلة الاعتدال والتوسط.
ثالثا: قوله تعالى:((والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ))سورة الفرقان/67: وقد ورد في تفسيره لا افراط ولا تفريط ، لا تقتير ولا تبذير ، بل وسط واعتدال ، وهذا هو نهج الإسلام الاعتدال في كل شيء ، لا إلحاد ولا تعدد آلهة ، ولا دكتاتورية ولا فوضى ، ولا إلغاء ملكية ولا ملكية طاغية, ورُوي عن عبد الرحمن قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله : يسئلونك ما ذا ينفقون قل العفو قال : الذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما قال : هذه بعد هذه هي الوسط.
من هنا فالآية تنقل لنا شكلا جديد من أشكال الاعتدال في الانفاق , التي تتضمن إيصال حقوق مالية لمستحقيها , غير أن الشريعة تمنهج عبر هذه الآية آلية إيصال تلكم الحقوق , بنحو لا يتضرر معه المنفق بسبب الإسراف ,ولا من يستحق الإنفاق بسبب الإقتار
ويمكن أيضا توسيع المراد من الآية الشريفة , باتجاه توظيفه في كل أنحاء المعاملات المادية , سواء العبادية منها أو غير العبادية.
رابعا: ((يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ))سورة الأعراف/31: والآية ناظرة الى الإسراف وأنه مذموم في كل حال ؛لأن الله لا يحب المسرفين و لا يرضى فعلهم ,وقد ورد في بيان ذلك عن العياشي : عن الصادق (عليه السلام) قال : أترى الله أعطى من أعطى من كرامته عليه ، ومنع من منع من هوان به عليه ، لا ولكن المال مال الله يضعه عند الرجل ودايع وجوز لهم أن يأكلوا قصدا ، ويشربوا قصدا ، ويلبسوا قصدا ، وينكحوا قصدا ، ويركبوا قصدا ، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين ، ويلموا به شعثهم ، فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالا ، ويشرب حلالا ، ويركب حلالا ، وينكح حلالا ، ومن عدا ذلك كان عليه حراما ، ثم قال : ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) أترى الله إئتمن رجلا على مال خول له أن يشتري فرسا بعشرة آلاف درهم ويجزيه فرس بعشرين درهما ويشتري جارية بألف دينار ويجزيه بعشرين دينارا ,بل ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى : ( لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ما يعطى للإساف بعدا إجتماعيا وليس اقتصاديا فحسب إذ يبين المراد منه فيقول : من سأل الناس شيئا وعنده ما يقوته يومه فهو من المسرفين
كيفما يكن الأمر فالآية تحدد وسيلة التعامل مع نعم الله سبحانه من الأكل والشرب , وأنه ينبغي على الفرد المسلم اعتماد الاعتدال تجنب الإسراف فيهما , وهي بذلك تهذب جانبا من التصرفات الشخصية العائدة للفرد المسلم , لتحقيق جملة أهداف منها: أولا الحفاظ على صحته حتى ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام): جمع اللَّه الطبّ كلَّه في نصف آية من كتابه ، وهو قوله : كلوا واشربوا ولا تسرفوا, ثانيا: صون كرامته ؛لأن الإسراف في الطعام والشراب مما لا يليق والأدبيات الاجتماعية التي ينبغي أن يتحلى بها الفدر المسلم , بل ان الاعتدال هو الأليق بشخصية الفرد المسلم ,ثالثا: حسن التصرف بما خوله من النعم , فلا يتصرف بها إلا بمقدار حاجته ,رابعا: من الممكن أن يوظف ويعطي ما يزيد عن حاجته ــ مما يمكن أن يكون من الاسراف ــ لإخوانه المحتاجين .
ومن الجدير بالذكر أنه يمكن توسيع دائرة الحد من الإسراف ,الوارد في الآية الشريفة , ليشمل تفاصيل حياتية أخرى تتعدى الجوانب المالية , ليكون الاعتدال موجها رئيسا لطائفة واسعة من التصرفات المتعلقة بالفرد والمجتمع ؛بلحاظ أن الإسراف صفة وتصرف مذموم وغير مقبول , فحب الأبناء أمر فطري لدى الآباء ,لكنه يصبح أمر مرفوضا وربما قبيحا عندما يمتزج بالإسراف ؛ لأنه سوف ينحرف عن الاعتدال ويخلف لنا الغيرة بين الأبناء , وربما يجعلهم يتجاوزن الحقوق المحددة لهم ونحو ذلك من النتائج التي يكون منسوب الفساد فيها أكبر من منسوب الصلاح, ومما يؤكد هذه المعاني قوله تعالى: ((كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ))سورة الانعام/141
يخلص البحث مما مرّ أن الاعتدال ــ في المنظومة القرآنية ــ يلعب دورا مميزا في تنظيم السلوكيات والمعاملات المالية والإجتماعية ونحوها , حاك بذلك عن محوريته في الشريعة السمحاء أجمع , وفق ما كشفت عنه الروايات التي كانت دليل البحث في البيان.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وأله الطاهرين وأصحابه المنتجبين.