الباحث الدكتور سرمد عادل صاحب حربي – جامعة كربلاء – كلية العلوم الإسلامية – قسم اللّغة العربية
تنهضُ المقاربة المصطلحيّة في هذا المقال من دراسة مفهوم المصطلح، وهي دراسة تقوم على نسق فلسفيّ تبحث في التّصوّرات الأوليّة (المبادئ) السّابقة منطقيّا على تكوين مفهوم المصطلح، والكشف عن البنية الذهنيّة الّتي أنشأها العقل المتخصص بالعلم، ثمّ أجراها في علامة لسانيّة خاصة (مصطلح) شكّلها معجميا على وفق القواعد التي تتحكّم في النّظام اللغويّ المستعمل في العربيّة.
وشوائب الحروف مصطلح ينتمي في حقله المفهوميّ إلى علم التّجويد، ويبين ذلك في نصوص أوردها علماء هذا العلم في مظانهم ومنه ما قاله أبو محمد مكي بن أبي طالب (ت 437هـــ) في باب القاف: (( وإذا وقعت الكاف بعدها أو قبلها وجب بيانها لئلا يشوبها من لفظ الكاف لقربها مــــــــنها))([i])، ومنه كذلك ما أورده عبد الوهاب القرطبيّ (ت 461هــ) في صوت الذال: (( وكذلك إذا أتت بعدها الكاف في مثل ] يَذكُرُون[ [آل عمران191] … وجب أن تصان عن شائبة الثاء، لأن الثاء من مخرج الذال، وهي أخت الكاف في الهمس، والذال مجهورة، فلا يؤمن من أن يجذبها همس الكاف إلى الثاء من الذال في المخرج ومشاركتها للكاف في الهمس))([ii]).
والّذي يبدو أن مفهوم شوائب الحروف في تراثنا الأدائيّ المتعلّق بأداء أصوات القرآن الكريم، تأسّس على تخوم مبدأ المجاورة وحدوده، وظهر هذا المبدأ عندما نبّه علماء التجويد القارئ المبتدئ في أثناء أداء آيات الذّكر الحكيم، وسوره المباركة على أمرين([iii]):
الأول، إحكام النطق بكلّ صوت على حدته موف حقّه من المخرج، والصفات، وهذا الأمر التصق بقضايا نطقيّة نظرت إلى الصوت بمعزل عن السّياق.
والآخر، إحكام النطق به، وأقصد بالصّوت القرآنيّ في داخل البنية، خوفًا من التباسه وتداخله بغيره من الأصوات، ذلك أن علماء التّجويد قد أدركوا أن الأصوات إذا تجاورت في الكلمة المفردة، أو في الكلام المتصل تعرّضت صفاتها، ومخارجها للتغيير الجزئي أو الكليّ، وهذا الأمر تعلّق بقضايا تشكيليّة نظرت إلى الصّوت في السياق الصوتيّ([iv]). وكان الهدف من ذلك:
أ- الحفاظ على هيأة التّلقي المسندة إلى رسول الله الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم).
ب- والحفاظ على أصوات القرآن من اللّحن والانحراف إلى اللّهجات العاميّة.
ولا غرو أن يفرز النّظر في الأمر الثاني، أي إحكام النّطق بالصّوت في داخل البنية، خشية التباسه وتداخله بغيره من الأصوات، مبدأً قبليّا حمل العقل المتخصّص في أحكام التّجويد في مرحلة التّجريد على تصوّر جينات مفهوم شوائب الحروف، ثمّ التّفكير فيما بعد بوضع علامة لسانيّة خاصة (مصطلح) ستظهر في مرحلة التّكوين والصّوغ اللّغويّين؛ هذا التّصوّر الّذي أفرزه حضور الصّوت القرآنيّ مع غيره من الأصوات هو الّذي سميّته بـــ (مبدأ المجاورة).
ومن عميق ما يحدث وفي ظلّ هذا المبدأ، شرعت مدركات السّمع عند علماء التّجويد في مراقبة أداء الصوت القرآنيّ ضمن الكلمة أو الكلمتين المتجاورتين، فتحسست صفاء الصّوت القرآنيّ ونقاءه ورخامة نغمته، وما يعرض له من إخلال يفضي إلى خلط تلك النقاوة، وتشويه ذلك الصّفاء عند ائتلافه مع غيره في البنية الصّوتية المفردة أو المتصلة، ذلك أن لسان القارئ المبتدئ قد يسبق بالخطأ مما يبحث به عن الخفة والتّماثل والاقتصاد في المجهود في علاقة صوتين متجاورين، فيحدث جراء ذلك([v]):
أ- أن يجذب الصوت الصوت الآخر إلى حيزه.
ب- أن يسلب الصوت الصوت الآخر صفته الخاصة به.
ج- أن يدخل الصوت مع الصوت المجاور له في صفته.
د- أن يحدث بين الصوتين المتجاورين صوت ثالث يشبههما.
فأراد مشيخة الأداء تنبيه القارئ المجوّد على مفهوم خلط الأصوات، ومزجها ببعضها([vi]) عِبْرَ مصطلح علميّ دقيق، فاستُفِزَ المخزون اللّغويّ الذّهنيّ الكامن لديهم، ما من شأنه أن حرّك عملية الاستحضار المعجميّ، ليُنتج وحدة لسانيّة ملائمة لما تمّ تصوّره، وإدراكه، وأقصد بتلك الوحدة اللسانيّة، كلمة (شوائب) لدلالتها على خلط الشيء بالشيء، ومنه شوب اللّبن بالماء، وغيره([vii]).
والذي يلحظ أن (الشوائب) وحدة لغويّة عامة يمكن أن تتعالق عِبْرَ سماتها الدّلاليّة مع طائفة واسعة من الأسماء، لذا فهي بحاجة إلى تحديد وتقييد، حتى تحيل على ما استجدّ من المفاهيم الأدائيّة المتعلّقة بالأصوات القرآنيّة المتجاورة، وعليه حُدّدتِ الشوائب بعنصر لغويّ آخر، وهو هنا (الحروف)، ثمّ عمل على تركيب العنصرين في مركّب واحد ليظهر في مرحلة التمثيل اللغويّ المستعمل بصورة، شوائب الحروف.
وشوائب الحروف مصطلح مركّب تركيب إضافة، يمكن تصوّر بنيته الأصل على النحو الآتي:
نفترض أن البنية الذهنيّة لهذا المركّب هي، شوائبٌ للحروف.
ثمّ مرت بالتغيّرات اللغويّة الآتية:
فبحكم قانون الإضافة المعنويّة في نظام العربية، حوّلت النكرة (شوائبٌ) إلى معرفة، فحذف منها التنوين، ثمّ حذفت اللام التي يقتضي تقديرها بين المضاف والمضاف إليه في حال معنى الملابسة، لتضاف الشوائب إلى الحروف على نية وجود اللام بينهما؛ وهكذا جرى صوغ هذا المصطلح بدءا من التّصورات الاوليّة القبليّة، مرورا بجينات المفهوم وتكوّنها، وحتى ظهور العلامة اللّسانيّة الخاصة وانكشافها.
([i]) الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة 171.
([iii]) ينظر: الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة 155، والتحديد في الإتقان والتجويد 78، 79، كتاب في تجويد القراءة ومخارج الحروف 356، 357، والنشر في القراءات العشر 1/ 214، 215.
([iv]) ينظر: الدراسات الصوتيّة عند علماء التجويد 329، والفنولوجيا وعلاقتها بالنظم في القرآن الكريم، د.محمد رزق شعير 18، والكلمة دراسة لغوية معجمية، د.حلمي خليل 33.
([v]) ينظر: الموضح في التجويد 176، 177، والدراسات الصوتية عند علماء التجويد 342، وأصوات اللغة مخارجها وصفاتها وشوائبها بين الدرس الصوتيّ والأداء القرآنيّ دراسة مقارنة، فراس الطائي 25.
([vi]) ينظر: صناعة المصطلح الصوتيّ عند علماء التّجويد، الباحث 100، 101.
([vii]) ينظر: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير [شوب] 125.