البناء الحضاري للإنسان وفق منهج القرآن

بقلم الدكتورة مواهب صالح مهدي – كلية العلوم الاسلامية – جامعة كربلاء

سلسة دور القرآن الكريم في بناء الإنسان – الدكتورة مواهب الخطيب
المقالة الرابعة :البناء الحضاري للإنسان وفق منج القران
أن الربط بين العقيدة الإسلامية وبناء الإنسان والعمران يعد المنهج الأكيد لتنزيل القيم على الواقع الاجتماعي وتؤهل الأمة الإسلامية إلى الانخراط في الإجابة، على التحديات الحضارية والمعاصرة وعلى رأسها قضية العولمة،أن قراءة الدين تتطلب الرؤية الحضارية التي تحمي الأمة الإسلامية من ظواهر العنف والتكفير والإقصاء، وتقوي آليات اشتغال الفكر الإسلامي ليكون فكرا عقلانيا مقاصديا يمتلك المنهجية الشمولية.
يؤكد القران على ضرور بناء المشروع الحضاري للأمة الإسلامية ،هذا الموضوع نفهمه من القرآن الكريم باستنطاقه عن كيفية بلورة الهندسة التي بمقتضاها يُبنى الإنسان والعمران، لا ينفك عن جملة رحمات، وفي هذا المضمار نحتاج إلى مايلي:
مقتضيات البناء الحضاري
1- الوعي الشديد بأن الإبحار في يم العالم المعاصر، المتلاطم الأمواج عاليها يحتاج إلى مهارات رُبانية ورَبّانية، لأن السفن بسبب هذا الإيقاع السريع المذهل، وبسبب هذا الانسياب الاقتراحي ولا عاصم ـ للإنسان ـ من هذا إلا الآيات أنزلت مبينة ومفصلة ومصرّفة ..
2- يجب على الانسان أن يعود و يستعيد نقطة ارتكازه التي تُخوّل له عملية الإبصار، من خلال بناء نفسي ترتكز على التزكية والتأليف بين القلوب”، مصداقا لقوله تعالى: “هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ” سورة الأنفال: الآية: 62، وقوله تعالى: “لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”، سورة الأنفال: الآية: 63.
3-نحن في زمن يقتضي العمل والتنافس في الخير من أجل إدراك الركب حيث صرح المتخصصون في الاقتصاد والأعمار بان المجتمعات التي ستزدهر في المستقبل هي الأكثر نمو بالأنفس نرى القران يحث على طلب ذلك”وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ” سورة الفرقان، الآية: 74.
4-أن القرآن الكريم ولّد حضارة عندما أحسن الإنسان التواصل والتفاعل مع القرآن لذا يجب مد الجسور بين الإنسان والقرآن من جديد.
5-في سياق المنعطفات التي تمر بها الأمة الإسلامية والإنسانية يقتضي الوضع أن يرتفع المفكرون والعلماء والباحثون إلى مقام الراهنية المتجددة في إعادة استكشاف قدرات الكتاب الخاتم في بناء الإنسان والإسهام في توجيه العمران الإنساني.
أن الله أنزل الوحي بغية إنشاء إنسان جديد، وبناء حضارة جديدة،وقد وصف القرآن الكريم الرسول بالأمي وجماعته بالأمية، والأمية معناها الصفاء المؤهل لتلقي الوحي، ، و أن قطع الصلة بين القرآن والإنسان وبين الإيمان والإنسان يسبب فوضى عارمة تعم كل مكان.
ان حب الإنسان لذاته ـ الأنا ـ مما تعاني منه الأمة، والحل هو العودة إلى المأوى الحقيقي للدين و الخروج من النمطية في التعامل مع القرآن ليقينا شرور الأنا والتخلف.
يعتبر البناء الحضاري مقصدا من مقاصد استخلاف الإنسان في الأرض، لغاية كبرى تتمثل في تحقيق العبودية لله تعالى بمفهومها الشامل.
النموذج البشري الذي سعى القرآن الكريم لإيجاده، الذي يستلزم استحضار هدي خير العباد في بناء هذا النموذج مع الكشف عن مقومات نبي الرحمة في إرساء بناء الإنسان وتأسيس العمران.ان بناء الإنسان في ضوء القران الكريم، هو المدخل لكل بناء في الوجود”، إذ هو “المدخل لبناء العمران” ولصناعة الحضارة وروح استمرارها، أو هي مدخل أساس من مداخل الإصلاح في هذا الكون.
خصائص المنهج القرآني في بناء الإنسان الحضاري
المداخل المنهجية لبناء الإنسان في القرآن الكريم، ومقومات الحضارة يمكن استقصاءها في بعض المفردات ،ومن هذه المفردات لفظ الأمة؛ باعتبارها التجمع البشري الذي يقصد نفس القبلة، هذا القصد الموحد هو الذي جعل هذا التجمع يسمى “أمة”.
وكل تجمع يؤم نفس القبلة يسمى أمة: (وما من دابة في الأرض أو طائر يطير بجناحين إلا أمم أمثالكم) سورة الانعام الاية 38
والأمم في اللغة: القصد، ولأول مرة في التاريخ-مع الأمة الإسلامية- يطلق هذا المصطلح على تجمع بشري، لأنه يؤم نفس القبلة الجغرافية المادية التي هي مؤشر على القبلة المعنوية وجه الله، ومع الأمة الإسلامية أصبحت الأمة فردا بعد أن كان الفرد أمة في الشريعة الإبراهيمية؛( إن إبراهيم كان أمة)سورة النحل :الاية 120، النبي محمد صلى الله عليه واله وفقا للتعاليم القرآنية اخرج المدينة المنورة من الفرد الأمة إلى الأمة الفرد.
وهذا لا يعني أن الأمة بهذا القصد الموحد لا يمكن أن تختلف رؤاها، ولهذا قال تعالى: (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات) سورة البقرة الآية 148، فالقبلة الواحدة التي هي الكعبة يؤمها البشر من مختلف البقاع الجغرافية، وعليه لابد أن تختلف وجهاتهم.
ان البناء الحضاري للأمة، يتم على أساس عدم الفصل بين علوم التسخير وعلوم التيسير، أو تحقير علوم التيسير لحساب علوم التسخير وذلك يصرف الضعفاء الأقل ذكاء والفاشلين إلى الأولى وصرف الطاقات العقلية القوية والباحثين الناجحين إلى الثانية، والرفع من قدر العلوم التجريبية والمادية على حساب العلوم الإنسانية والأدبية، لأن أثر الخطأ في المختبر على البشرية والأمة هو نفسه أثر الخطأ في الأفكار والسياسات والإيديولوجيات أو ربما أكثر.لذا نرى القران يؤكد يقول (ولولا نفر من كل أمة طائفة)سورة التوبة 122 والنفرة تقتضي التشمير والمكابدة والكدح.
وبناء الأمة حضاريا يستلزم فيما يستلزم الالتصاق بالنص القرآني ،إن الاعتقاد بأننا انهينا القرآن فهما لا يصح، فهو لا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه، وهو القرآن بالتعريف الذي سيقرأ إلى يوم القيامة مرشدا موجها للبشرية، لقد انشغل المفسرون قديما بآيات الأحكام أكثر من غيرها من الآيات البصائر، وقد آن الأوان من أجل بناء إنسان حضاري يبني عمرانه بالقرآن، الالتفات والتركيز على الآيات المتعلقة بالإنسان وبعلاقته بنفسه من جهة وبمحيطه من جهة ثانية.
ان تأصيل العلاقة بين القرآن والإنسان والعمران يوفهم يتجلى في إن الله أنزله ليكون للعالمين هدى وأوعز إلى نبيه ان يبني هذا البناء الحضاري
آفاق دلالية ومقاصدية في البناء الحضاري.
ركز القران على الهوية وأهميته ودورها في البناء الحضاري للأمة، ويمكن تعريف الهوية : بأنها الخصائص المميزة التي تبرز فردا أو مجتمعا عن غيرها يعني القيمة المضافة، ويمكن ان نعد من أركان الهوية الدين واللغة والثقافة. ومن الواضح ان القرآن الكريم هو القيمة التي أضيفت لهذه الأمة في هذا العصر في مجال العمران والإنسان. فانتقل إلى الدلالة اللغوية لكلمة عمران في المعاجم وكيف أجمعوا على معنى الشمول.
إنّ النموذج البشري نموذج المعياري النموذج الرباني فريد لم تتمتع حضارة من الحضارات.
هناك سؤال منهجي دقيق، كيف نجعل من القرآن الكريم مصدراً معرفيا قويا؟.
بين أن العمران والإنسان مترابطان، وأن العمران متأثر بالإنسان في وجود هذا العمران وفي تدبيره وفي مصيره. فانتقل إلى عرض الآيات القرآنية التي حكى فيها الحق سبحانه إنجازات عمرانية، قوم عاد، وإعمار سيدنا سليمان…وختم الأستاذ بحقيقة أن المساجد مصدر بناء الإنسان للعمران، وكيف هدمها وخرابها يؤول إلى فساد الأرض، لأن المساجد مصدر الرشد.
يؤكد القران الكريم على قيمة عمارة الأرض وأنها عبادة موجبة، ولو نظرنا إلى أسماء السور القرآنية التي تحمل أسماء ودلالات عمرانية، سورة الحجرات، سورة المائدة، سورة الزخرف، سورة النور، وسورة الحديد.
هناك حوالي (10%) من أسماء القرآن لها دلالة عمرانية بنيانية، أي ما يقارب (80) آية قرآنية لها صورة مباشرة للعمران. كما يحتوي القرآن الكريم على (135) مصطلح معمراي. نفهم من ذلك بأن القرآن الكريم يعلمنا لغة معمارية دقيقة فعرض الآيات التي تتحدث عن البعد الوظيفي للبنيان، ولم يغفل القران في سياقاته من بيان الضوابط الواجب الانتباه اليها في مسيرة البناء الحضاري وأولها التقوى كما لم يغفل من التحذير من الممارسات الفاسدة.
(لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)(التوبة/108).
قواعد ا لبناء الحضاري في القران
ان القرآن كتابا فوق الزمان، وفوق المكان، فهو أنّه صالح لكل زمان ومكان، ودلالاته تخرج عن منطق الزمان، ومنطق المقايسات، ومنطق المنطق،فلو تأملنا آيات تتحدث عن قيم القرآن، وعن سنن القرآن، وعن الأمم القديمة، والحضارات البائدة، لأمكننا استخراج قواعد وقوانين البناء الحضاري، يجب ان يأخذ كتطبيقا عمليا يحتلّ مكانه على خريطة العالم.
الآية القرآنية متمثلة في صناعة الإنسان، ثم وجد هذا الإنسان يصنع الحضارة والعمران يجب ان تتعدى من مرحلة التنظير والتفسير إلى الإعمال والتطبيق.
فيجب على الباحثين العبور من مرحلة التفسير الموضوعي إلى التلفيق بين العلوم والقران وإيجاد علوم حضارية مبتنية على مباني معرفية قرآنية، أنّ تفسير القرآن الكريم لا ينتهي عند عتبة بيان الدلالة والمعنى فقط؛ وإنما يتوقف بعد ذلك على إنزال تلك الدلالة والمعنى على أرض الواقع، لإنزالها في هذه النّفس، وفي هذا العقل، وفي هذه الجوارح، حتى تصبح حقيقة ماثلة شاخصة أمام الأعين، ودعا إلى تكاثف جهود الباحثين، واجتماع العقول، بمفهوم الجماعة العلمية، وبمفهوم العقل/الوعي الجمعي، للجلوس بين يدي القرآن الكريم، الذي يرسل إلينا أنوارا، حتى تمر علينا الآيات، حسب تخصّصاتنا، واهتماماتنا، وسياقاتنا، فتتحوّل إلى فعل حضاري، ينجي هذه الأمّة، بل وينجي البشرية جمعاء.