حراك العقل

بقلم الدكتورة مواهب صالح مهدي – كلية العلوم الاسلامية – جامعة كربلاء

بسم الله الرحمن الرحيم
القران ذلك الكتاب الذي اعتنى بصقل عقل الإنسان وتنمية قدرته على التفكير وتهذيب مهاراته الفكرية لتدرب على تفكير عقلائي ينتج تصرفا عقلانيا وقد تفرد هذا الكتاب العظيم بتقديم نظرة جديدة للكون والحياة لم تعرف من قبل حتى في الكتب السماوية السابقة ، فقد كان من أبرز معالم هذا الكتاب الكريم عنايته بالعقل، فقد ميز اللهُ عز وجل الإنسانَ بالعقل عن سائر المخلوقات، وأوجب عليه إعمال عقله في شؤونه المختلفة، وألقى اللوم الشديد على الذين يعطلون عقولهم وبناء على هذا التكريم الإلهي للعقل فإننا نعتقد أن القرآن الكريم مضى بالعقل إلى آفاق أرحب ليبني مدركاته العقلانية وسوف نتدبر في هذا الشهر العظيم ومن خلال هذه السلسلة حراك العقل في القران الكريم. من خلال شواهد الآيات في ذلك:
العقل والعلم
ومن النقلات العقلية المهمة التي تضمنتها الرسالة الخالدة، لفت نظر البشر إلى دور العلم في الحياة، فقد حفل الكتاب والسنة بنصوص لا تعد ولا تحصى؛ تحض كلها على العلم والتعلم، منها قوله تعالى : ” … قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ” سورة الزمر 9 ، وقوله تعالى : “يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” سورة المجادلة 11 ، وورد في كثير من الأحاديث التي تعلي من مكانة العلم والعلماء، منها قوله صلى الله عليه و اله سلم : “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم”، وغيرها كثير من نصوص الكتاب والسنة .
وثمة ملاحظة بالغة الأهمية لا بد من الوقوف عندها طويلاً في سياق الحديث عن نظرة القرآن الكريم إلى العلم؛ إذ لم يكتف القرآن بالدعوة إلى العلم؛ وإنما دعا كذلك إلى رفض أية دعوى إلا ببرهان “قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ” سورة البقرة 111، بل ذهب القرآن الكريم إلى أبعد من هذا فأسس “المنهج التجريبي” الذي صار فيما بعد حجر الأساس في العلوم التجريبية قاطبة، وذلك من خلال التجربة العملية التي جرت على يدي نبي الله إبراهيم عليه السلام : “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” سورة البقرة 260 .
وعلى هذه الصورة انتقل القرآن الكريم بالعقل البشري نقلة حاسمة بوضع أساسين للعلم الجدير بالثقة، هما (البرهان والتجربة) وقد كان لهذه النقلة العقلية تأثير كبير في إنجازات العلماء التجريبيين المسلمين الذين أهدوا العالم كنزاً لا يقدر بثمن في العلوم المختلفة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر أعمال “ابن سينا” في الطب، و “الحسن بن الهيثم” في الفيزياء، و “البيروني” و “الكندي” في الفلك، و”الخوارزمي” في الرياضيات، وغيرهم كثير، مما مهد الطريق إلى العلوم الحديثة المعاصرة التي غيرت وجه الأرض، كل هذا بفضل العقلانية العلمية التي أسسها القرآن الكريم، ففتحت للعلم كل الأبواب !
الدعوة للتجديد :
عندما بعث الله نبيه محمداً – صلى الله عليه وسلم – في مكة كان أهلها يعبدون الأوثان، فوقفوا في وجه النبي وحاربوه، بحجة أن ما جاء به يتعارض مع ما تعودوه وألفوه من العبادة التي وجدوا عليها آباءهم وأجدادهم “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ” سورة المائدة 104 .
ويخبرنا القرآن الكريم وتاريخ الرسالات السماوية أن هذه “الآبائية” مرض مزمن عرفته البشرية منذ زمن بعيد، فكان الناس كلما جاءهم رسول، رفضوا دعوته وحاربوه، والحجة دائماً هي نفس الحجة : “أجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا” سورة الأعراف 70 .
وبما أن الآبائية مرض يوقف الحياة عند زمن مضى .. زمن الآباء .. ويعطل العقول، فقد كان علاج هذا المرض هدفاً مركزياً من أهداف القرآن الكريم الذي أعلن حرباً شعواء على الآبائية، في آيات كثيرة؛ لأن الآبائية تقوم على التقليد الأعمى واعتقاد الصواب المطلق في تراث الآباء والأجداد، وترفع هذا التراث إلى مرتبة العصمة والقداسة، وفي هذا وقف لعجلة الحياة، وتحنيط للمجتمع عند زمن عاطل عن الفعل والعطاء !
ولهذه الأسباب تكررت إدانة القرآن الكريم للآبائية، وحذر من التوقف عند تراث السابقين مهما اعتقدنا فيهم العلم والإخلاص والتقوى؛ لكي يظل المجتمع نابضاً بالحياة، ويظل الدين على نقائه الأول، فلا يختلط بعمل البشر، كما حصل في الرسالات السابقة التي اختلط فيها الوحي المعصوم بالعمل البشري غير المعصوم، فانحرف القوم، ووقعوا في الضلال والكفر !
وليس تراثنا الإسلامي بمنأى عن هذا المرض، فتراثنا كذلك عمل بشري معرض لما يتعرض له كل عمل بشري، من خطأ، أو سهو، أو غلو، أو سوء تأويل، وهذا ما يوجب إعادة النظر فيه ما بين فترة وأخرى في نتاج المسلمين إذا أننا لسنا في عصمة عن مرض الآبائية، وهذا ما يوجب علينا العمل على تجديد الدين بتحريره مما يلحق به – مع مرور الزمن – من علل أو أدواء تتعارض مع أصوله ومقاصده .
التحذير من الظن والهوى وغيرها من علل العقل :
يعد الظن والهوى من أسوأ الأمراض التي إذا خالطت العقل أعمته عن رؤية الحق، وأهلكت صاحبه، ولهذا نجد الكتاب والسنة قد حفلا بالنصوص التي تحذر من هذين المرضين احتراماً للعقل، وحماية له من الضلال والهلاك، من ذلك قوله تعالى: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) سورة يونس 36، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : “إياكم والظنَّ، فإنَّ الظنَّ أكذب الحديث” متفق عليه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وإنما كان الظنُّ مرذولاً لأنَّه مخالف للواقع، ولا يستند إلى برهان، فكان أكذب الحديث .
وإذا كان الظن مخالف للواقع، فإن “الهوى” قريب من ذلك؛ فهو تحكيم للعاطفة بدل العقل، وتجاهل للواقع، وازدراء للعواقب .
وهكذا نجد أن الهوى والظن لا يخالطان أمراً إلا أفسداه، فإن دخلا على العلم أخرجاه عن اليقين، ونزعا عنه الثقة . وفي هذا ما فيه من ازدراء للعقل واستخفاف، ولهذا كان للقران موقف حاسم في رفض الظن والهوى، واعتبارهما من المهلكات،فاتباع الظن والهوى يَطمِسُ نورَ العقل، ويُعمي بصيرة القلب، ويصد عن الحق؛ كما أن اتباع الظن والهوى يفسد العقل؛ فيصير الحَسَن عنده قبيحاً، والقبيح حسَناً؛ ولهذا كان الظن والهوى من أهم أسباب الفساد في الأرض كما قال تعالى: ﴿ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن .. الآية ﴾ سورة المؤمنون 71. وحرصاً من القرآن الكريم على سلامة العقل، جعل البعد عن الظن والهوى من أسس العقلانية الراشدة .
انطلاق العقل في تأمل الخلق :
يزعم العض أن السبب في انطلاقة العقل الأوروبي اعتماده على المنهج الاستقرائي الذي يحرر العقل من القيود المسبقة، من الأنموذج الحاكم غير أن الفارق ما بين العقل المسلم والعقل الأوروبي لا يعود إلى النصوص، كما زعم هؤلاء، وإنما يرجع هذا الفارق إلى ملابسات تاريخية أخرى لا مجال لعرضها هنا ونكتفي هنا للتدليل على براءة النصوص من تهمة ما أصاب العقل المسلم من عطالة بل بالعكس فان النص القراني ساعد على انطلاق العقل للنظر والتفكير بلا حدود، منها قوله تعالى : “قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” سورة يونس 101 . وقوله تعالى: “وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ” سورة الجاثية 13 ، فالقران يفتح الباب واسعاً للعقل البشري لكي يستكشف السنن الناظمة لحركة الكون والحياة، ليس في الأرض وحدها، بل في السماء كذلك، لأن معرفة هذه السنن – بمنظور القرآن الكريم – تعد شرطاً لعمارة الأرض، والتبصر بالعواقب، وتؤهل معرفة هذه السنن تحقيق واجب الاستخلاف في الأرض على الوجه الذي يرضي الله عز وجل .
ويجد المتدبر في القران ، خلاصة صافية للسنن التي تحكم الكون والحياة، وأسباب نهوض الأمم والحضارات وسقوطها، وربط الأسباب بالمسببات، والمقدمات بالنتائج، ويلاحظ الباحث كذلك أن الكتاب والسنة يقدمان هذه الخلاصة للسنن بما يشبه المعادلات الرياضية الصارمة التي تشكل زاداً غنياً للعقل البشري لكي يسير في هذه الحياة على بصيرة .
ويرجع اهتمام القران بمعرفة سنن الله في الخلق، لأن التعرف عليها لا يمنح الإنسان القدرة على تسخير الكون فحسب، وإنما يمنحه قدراً كبيراً من التحكم بالنتائج، والتخفيف من الآثار السلبية، ومغالبة قدر بقدر، والفرار من قدر إلى قدر، وفي هذا فتح للباب واسعاً أمام طاقات الإنسان، وتمكينه من التحكم في الكون الذي قدر الله له أن يكون فيه سيداً، بتذليل هذه السنن وتسخيرها له: كما جاء في قوله تعالى “وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” سورة الجاثية 13 .
ومن الجدير بالملاحظة هنا أن القرآن الكريم لم يكتف بالحديث نظرياً عن السنن، وإنما عرض مثالاً حياً عن ثمرة المعرفة بالسن؛ وذلك من خلال قصة “ذو القرنين” التي تمثل أنموذجاً متجسداً لربط الأسباب بالمسببات، والمقدمات بالنتائج، “إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)” سورة الكهف واخر دعونا ان الحمد لله رب.