بقم الدكتور ميثم رشيد حميد / كلية العلوم الإسلامية – قسم اللغة العربية
من اللافت للنظر أن يكتب تشومسكي مقالا تحت عنوان “عن العقول واللغة”[1]Of minds and language: Noam Chomsky (2007)، فعنوانه يلامس حقيقتين، إحداهما: العقول المحركة للغة، وأما الأخرى فتعني العقول المستنبطة من اللغة. ومعروف لدى الدارسين أن تشومسكي لا يقصد الحقيقة الاولى؛ لأن مفهوم اللغة لديه لا يظهر في السلسلة التواصلية الانطباعية أو الانعكاسية، أو بما يسمى الاستدعاء. وبما أنها لا تظهر على هذا النحو الذي أجمعت عليه الدراسات المعاصرة قبله، بقي لديه الجانب الآخر منها، وهي أنها مركز للتفكير ومنطلق لكل استعداد ينشأ منه.
وفي ضوء هذه الحركة المعرفية، بات من المألوف أن نلتمس عقلاً مُدرَكاَ في اللغة، فنظامها لا يشبه التكوينات المصطنعة التي يتحكم بوجودها العقل البشري كلياً، وبحسب توصيفها النظامي الدقيق، لا يكون هذا النظام متاثراً بالكون الخارجي. وحين تبنى داخلياً، تكون مساوقة لعقولنا التي تعبر عن كينونتها بالاستعداد. واللغة بعد ذلك وجدت من طريقة المحافظة على درجة العقلانية هذه. وإن هذا لمما يلمس من انشطارها بين اللغة الرسمية العامة أو الفصحى، ولهجاتها، فالمعجم اللغوي على سبيل المثال، مراقب جيد لحركة التاريخ. وإن كل ما يجرى من التعديلات المعجمية في هذه الحركة؛ سنجد له مخرجاً متدرجاً، يصل إلى عمقها القار من جهة ، وإلى هيئته النهائية التواصلية، من جهة ثانية.
إذن؛ ليس المسار المتبع إلى العمق اللغوي وحده من يكشف عن عقل اللغة المضمر، بل حتى طرائق الاستعمال؛ فالتنوعات الصوتية تعود الى وحدة صوتية قابلة للتجريد، والبنية الصرفية كذلك، والهيكل النحوي هو عقل مجرد بذاته.. فمن أين تاتي الخروقات في هذا النظام؟ سنسعى خلف من بنى على هذه النظرية، ونعود إلى تشومسكي، فهو مثال رائع، نرصد من تجربته، نقاط تصادم موارد العقل، واضطرابها في أمثلته اللغوية. غير منكرين أن عقل هذا الرجل، أكبر من لغته التي أراد لها وجهاً من التفرد. وما يوقفنا متأملين، خضوع قواعده العقلية الكلية، إلى التجريب؛ وهو على نحو ما يعدُّ ضعفاً بيّناً لا سبيل لتلافيه.
يقول تشومسكي: بالإمكان استبعاد البنية التحتية، والبنية السطحية على أساس مبدئي، وكذلك الصيغة المنطقية بمعناها الفني، مبقين على مستويات المواجهة فقط. … يوجد تفسير مبدئي لظاهرة تغيير المكان الغريبة، واسعة الانتشار مع خيارات تأويلية في المواضع الصامتة صوتياً. ومن المنطلق نفسه، تحمل كل مقاربة أخرى لهذه الظاهرة عبئاً تجريبياً”[2].
لا يبدو المخطط اللغوي العقلي يعاني من خروقات تجريبية، ولكن مشكلة تشومسكي تبدو في المثال اللغوي الذي يحافظ على سلامة المخطط حتى النهاية؛ ففي المبدأ العام، يعمل العقل اللغوي على الانتقال من بنية عميقة إلى بنية سطحية، والعكس بالعكس. إننا نساير الاتجاهين معاً حين نقول:
رمى عيسى العصا
ولو أبدلنا الرتب بقولنا:
رمى العصا عيسى
سنكون اجرينا مبادلة طوعية بين مستويين دلت عليهما البنية السطحية. ولكن هذا لا ينفع إن كانت المبادلة بين مستويين مختلفين، من نحو قوله تعالى:
(رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) البقرة: 286.
الفارق أن اللغة لم تضع لنا خطاً واصلا بين (نناديك ربنا) وبين (يا ربنا)، فالمضمر المؤول يستدعي انتقالة غير ملفوظة، وهذا يعني انتقال اللغة إلى الحتمية المنطقية. وحيث لا يمكن حساب هذا الانتقال بدقة، لم يتبق بحسب تشومسكي إلا لحظة المواجهة التي ترجح خياراً حتمياً واحداً يساير نظماً مقننة عقلياً. سنسعف تشومسكي بمثال لما يذهب إليه، من قوله تعالى:
(وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً) هود:64.
وفي المثال الكريم نستغني بسهولة عن التقسيم بين السطح والعمق، وكذلك نستطيع فهمه من دون اللجوء الى التأويل المنطقي. فنحن هنا نواجه انتقالاً مشروطاً من الخبر إلى مخصص لهذا الخبر، والعامل فيه الإشارة. ومن المؤكد أن تشومسكي لا يحصل على أجوبة مقنعة لما يذهب إليه من لغته؛ فينحو مضطراً نحو التجريب.
ولو أعدنا التفكير في قولنا:
هذا عبد الله منطلقاً
وهو من أمثلة سيبويه، سنجد أننا نتحرك في خط دقيق لما بعد الخبر، وهذه الحركة مبعثها أن الخبر ليس سلسلة متلاشية، أو مغلقة على ذاتها. إذن استطعنا أن نحرّك السمة العاملية فيه، وأن نعيد بناءه، بمقدار طبيعة المواجهة التي يواجهها الخبر، بحسب نظم الحوسبة، وإعادة ترتيب بنيته داخلياً كما يريد أن يراها تشومسكي.
وبعد ذلك، فإن دقة العربية افترضت، بل برهنت على أن تهيئة العقل واستعداده للمواجهة، مقترن بقيد لغوي مهمته أن يكون أداة طيعة محاكية لطريقة التفكير، وهذه المزامنة بين القيود اللغوية، وطبقات التفكير الذهنية، تخرج بنتيجة واحدة مفادها: ارتباط التفكير بقيود اللغة، فالتفكير خلق حراً، وأظهر قيوده في اللغة لأجل التواصل فحسب. وهذا ما تفيدنا به العربية حصراً، والأمثلة كثيرة هنا.
أما ما يراه العالٍم الغربي، فيقود إلى أن التداخل اللغوي مع الفكر لا يكون بهذه السهولة. فالقيود اللغوية نفسها، هي من مواضع الشكوى لدى تشومسكي، فهي تجعل بعض الافكار غير قابلة للتعبير، إلا بالإطالة واللف والدوران، وهو ما يعيق التواصل.[3] وعلى هذا النحو هو مضطر لتمثيل التداخل بين اللغة والفكر، بعملية اقتران بين البنية النحوية الداخلية، مع المواجهة الحسية الحركية، وإن كان هذا التمثيل مما يعدّ لديه بالعملية الثانوية.[4] ومن جانب آخر هو مضطر أيضاً أن يوعز إلى أن وجود التعقيد والتنوع وتأثيرات الحوادث التاريخية، في اللغة، يوعزها إلى الصرف، والنظام الصوتي. والخلاص برأيه يكمن في: جلبه الدمج غير المحدود بين نظامي المواجهة غير المتناظرين، فهو الذي يعطينا لغة واحدة للفكر، ويعطينا القاعدة لعمليات فرعية للتمظهر الصوتي.[5]
وحين ننتقل إلى العربية نجد أن دمج المستوى الداخلي المعرفي، مع الواجهة الحسية في البنية النحوية، نجده أي هذا الدمج، قد قطع مراحل متعددة، باتت فيها قيود اللغة مسخرة للدلالة عليه. ومثالنا على ذلك أن الأساليب المعروفة في العربية، من استفهام وغيره، استطاعت أن تجمع أنظمة التفكير، وتضمها إلى جانب مهمتها الحسية القصدية المباشرة. وحين نجحت في ذلك تركت دليلاً قائماً على الفصل بينهما؛ لتحفظ لكلٍّ حقّه. يقول تعالى:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) ابراهيم: 28.
ويبدو من النص أنه يبنى على مركز واحد: (رأيت، لم ترَ، ألم ترَ)، استدعى المقدمات الخبرية في النص، فهناك رؤية بصرية تمت في الماضي، والنص يرجيء بناءه إلى الداخل، وليس إلى منطقة حسية، يتصاعد فيها الاتجاهان. إنه يركز على السمة الداخلية، ليحولها إلى طريقة يصل بها إلى ذلك الماضي، إذن تثبت العربية هنا طريقة للتفكير. إن هذه الطريقة تبدأ معنا من سلسلة تتوافق مع القدرة العقلية المتدرجة التي تبدأ أولاً من مواضع الاستدلال، فهي تكشف عن تعبيرات لغوية تستعمل للاستدلال. وهكذا صارت الرؤية استدلالية، تنتقل إلى مواضع الاستدلال المعبر عنها لغويا بـ (ماذا، وكيف، وما السبب… الخ). وخلاصة الأمر أن هذا النص جمع وأحكم أنظمة التفكير من دون أن يلجا إلى سبل التجريب بينها. وقد نصّ تشومسكي على أن أنظمة التفكير لا تخرج في تعبيراتها اللغوية عن الاستدلال، والتأويل، وتنظيم الأفعال الحسية، والأخرى العقلية. وقد جمعها النص الكريم سوية.
وحين ينتقل النص إلى المواجهة الحسية، لا يدير ظهره للحمل العقلي. إننا نفرح أن نستكشف المعنى الأخير للاستفهام، إذا كان تشويقاً أو إنكاراً، أو نفياً. لكننا ندرك أن أسلوب الاستفهام لا يعرض علينا مباشرة هذه النتيجة. إنه ينتقل ويكشف مراحل انتقاله، ويخاطب بطريقة لا نهائية، والأهم من ذلك، أنه يشدد على لا تاريخية الخطاب نفسه، وفي النهاية نجد أننا أمام واقعة معرفية، تطابق المعيار الكلي الذي استهدفه تشومسكي بما سماه اللغة الداخلية. وحين نقف على العربية نراها قد وصلت إلى أعمق من ذلك فبناؤها لا ينفصل عن مستويات الجهد المعرفي العام عند الإنسان، إن لم تكن هي من بدأه، إذا آمنا أنها اللغة الإنسانية الام. وحسبنا أن نستشهد هنا بقول الدكتور محمد بهجة الأثري في وصف العربية، يقول فيها: هي أقرب إلى النظام الطبيعي والتزامه سجيةً وسليقةً من هذه اللغات الواسعة الانتشار. (القاهرة: 1976).
وفي النهاية يمكننا أن نصل إلى حقيقة ثابتة: أن اللغة هي من يتحكم بالبعد التجريبي المعرفي، وليس العكس. وأن ظاهرة دمج مستويين مختلفين في تحقيق التوازي (العقلي الحسي) في بناء اللغة؛ تحتاج إلى وقفة متأملة سنعود إليها في مقال لاحق بإذن الله تعالى.
[1] مقال ترجمه الدكتور مرتضى جواد باقر، ونشر في مجلة جامعة بابل للعلوم الإنسانية: م/28، ع/8: 2020.
[2] عن العقول واللغة: نعوم جومسكي، ت. د. مرتضى جواد باقر، مجلة جامعة بابل للعلوم الإنسانية: م/ 28، ع/ 8 : 2020. ص: 338.
[3] نفسه: 336.
[4] نفسه: 336.
[5] نفسه: 336.