الاكتشاف بوصفه تفاعلًا قراءة في “لا متناهيات الجدار الناري”

د علاء صالح عبيد / كلية العلوم الاسلامية – جامعة كربلاء

يكتسب النص التفاعلي ماهيته – بوصفه جنسًا أدبيًا متفردًا عن الأجناس الأدبية الأخر – من المشاركة (=التفاعل) بوصفها مبدأ عامًّا يرتجي من ورائه منتج النص أن يتشكل بمراعاته في العمل الأدبي مثلث إبداعي يصدر عن المنتج ليمر في خط أفقي بالمتلقي فيتحول من خلاله إلى الاتجاه العمودي بخط متقطع تزداد الفاصلة بين أجزائه استنادًا إلى مستوى قابلية النص على المشاركة وكفاءة المتلقي الأدبية ومدى اتحاده مع المنتج في العمق الثقافي ليلتقي بقصد المنتج في رأس المثلث.

ومن ثمَّ فالمشاركة تمثّل علامة فارقة في النص التفاعلي، وقد حددها رائد الأدب التفاعلي الشاعر الدكتور مشتاق عباس معن في ضربين اثنين: هما المشاركة الحقيقية والمشاركة المجازية[1]، مشيرًا إلى أن “الضربين يبذران ملامح الصيرورة في تغاير المنتج ولو بمستويات متعددة وأشكال مختلفة؛ فالضرب الأول يفلت تماما من نسق الثبات ويذوّب أبعاد العالم المعتادة، فلا تجد – والحال كذلك – شكلا واحدا بالفعل، بل أشكالا متفرعة عن ولادة أصل. أما الضرب الثاني فينفعل حضوره بمديات متفاوتة مع التلقي، تبعا لإمكانية النص في تشريك المتلقي بوساطة خيارات الدخول ومنافذ الإبحار بين نوافذ النص المتفرّع، ومخاتلات التشكيل وظواهره، وطبقية البناء، وغيرها من مسامات تنسّم العلامة وإعادة التخليق… والمعيار المائز بين الضربين هو إمكانية المتلقي في تحويل صفته عن طريق المشاركة الحقيقية بالبرمجة وإعادة توليفها، أو الوقوف على عتبات المرقون، فالنص التفاعلي الرقمي متوافر على الضربين”[2]، وقد حُددت أنماط المشاركة – حقيقية ومجازية – في النص التفاعلي الرقمي بأربعة أنماط هي: التأويل والإبحار والتشكيل والكتابة[3]، ولعلنا نستطيع أن نزيد على هذه الأنماط الأربع نمطًا خامسًا نستشفه في النتاج التفاعلي الثاني للشاعر الدكتور مشتاق عباس معن الموسوم بـ “لا متناهيات الجدار الناري”؛ ويتمثل في الكشف؛ إذ يجد الناظر في هذه القصيدة نفسه أمام بوابة سوداء تتوسطها ساعة بأرقام لاتينية مؤطرة بإطار يدور عكس الاتجاه المعهود لعقارب الساعة، وهي تخلو – بخلاف القصيدة الأولى- من التوجيهات ومن العنوان؛ ومن ثمّ فإنه ملزم بأن يجرب الضغط على أجزاء الصورة الظاهرة أمامه ليُرضي فضوله الأدبي، وليكتشف محتوى هذه القصيدة، والشاعر هنا يضع المتلقي أمام أرضية أخرى للنص التفاعلي – فضلًا على أرضيته المنظورة المتمثلة بالساعة – تتشكل هذه الأرضية في ذهن المتلقي لتخلق فيه نصًّا افتراضيًا ذهنيًا يوازي النص الافتراضي الخارجي على شاشة الحاسوب، مفتاح هذا النص المتصورن في الذهن يتمثل في الاكتشاف؛ إذ عليه أن يكتشف نقاط الولوج في النص التفاعلي الحاسوبي وهو ما يتطلب منه جهدًا ذهنيًا ينبني في الذهن على استدعاء كل المعطيات المنطقية والثقافية والجمالية لديه ليتمكن من توقّع نقطة الولوج وصولًا إلى اكتشافها، فالشاعر يضمن – من ثمَّ – هيمنة لنصه التفاعلي على المتلقي فيجعل منه مرجعية من المرجعيات المعتمدة في إنتاج نصه التفاعلي مثله مثل القطع الذكية (السوفت وير) في جهاز الحاسوب الشخصي أو في خوادم الشبكة العنكبوتية.

وبعد أن ضمن الشاعر هذه المعية بين المتلقي ونصه التفاعلي، وتأكد من تعاقب الدفق المعلومي بينهما، واستثبت إثارته، وأنه أضحى مستعدًا للتلقي؛ شرع ببثّ البوح إليه على مستوياته المتنوعة البصرية، والسمعية، والنصية، وصار الشاعر يستجلي تفاعل المتلقي بسعيه إلى الكشف عن نقاط الولوج في النص التفاعلي.

ولأجل أن يحافظ الشاعر على هذا الوهج التفاعلي من لدن المتلقي اعتمد تكتيكًا يتشكل من تعانق تقنيتين هما: تنويع نقاط الولوج، والتعمية (=إخفاء نقاط الولوج)؛ فنراه يجعل الايقونة مرة نقطة للولوج، ومرة يجعل الكلمة، وهذا يسهم بنحو أو بآخر في جعلها خفية على المتلقي سواء أعلى مستوى تشخيصها أم على مستوى استكناه ما تُحيل إليه.

 فما أن يضع المتلقي المؤشرَ على محور عقارب الساعة حتى ينبثق من جانبيها عنوان القصيدة واسم الشاعر؛ فيكون قد اكتشفت اسم القصيدة واسم شاعرها، ويتأكد في نفسه مركزية هذا العنوان وحاكميته على ما سيرد فيها من معان، وأن النص التفاعلي هو نقطة التمركز في العملية التواصلية وأن المنتج والمتلقي – على السواء – يمثلان هامشًا على هذا النص، فيسهمان في بنائه واكتماله.

ومن ثمّ فإن الكشف يحقق – فضلًا على ما تقدم – كفاءة قرائية لدى المتلقي تجعله بمستوى النص التفاعلي المقدّم.

          إن نقاط الولوج الموزعة – على نحو مدروس – في النص التفاعلي كثيرة ليس لنا أن نفضحها كلها فنحرم المتلقي الذي يقرأ هذا المقال حلاوة الكشف وأثره في صناعة التفاعل المؤدي إلى الفهم الأمثل للنص التفاعلي، إلّا أننا سنشير إلى بعضها التي منها أن القصيدة عائمة تتحرك في الصفحة وعلى المتلقي أن يمسكها بالمؤشر بأن يضعه عليها، عليه، أيضًا، أن يتتبع كل كلمات القصيدة ليكتشف الكلمة التي تحيله إلى القصيدة الأخرى، ومنها أيضًا أن المتلقي يرى في أقصى يمين الصفحة شريطًا طوليًا تقبع في أسفله الشخصية الكاريكاتيرية (حنظلة) – بما تحمله من رمز ثقافي راكز في ذهن الثقف العربي – تمشي إلى الخلف، فإن كان هذا المتلقي قد اكتسب مهارة الكشف بفضل ما مرّ به من حالات حتى وصوله إلى هذا الجزء من النص، فإنه لن يستطيع مقاومة فضوله الأدبي الفاعل في تلمس هذه الشخصية بالمؤشر فيكتشف أنها ستمشي إلى الأمام؛ ما يجعلنا نجزم أن الشاعر أراد للمتلقي بفضل كشفه عن نقاط الولوج هذه أن يعي أهمية التتبع في عملية فهم النص التفاعلي، فضلا على المعنى الذي يجسده هذا المشهد المكتشف من حال العرب المتقهقر وأن لا بدّ لنا من أن نتبه إلى حالنا، وأن نشخص أسباب تقهقرنا، لنصحح المسير.

وهكذا فإن الشاعر يقدّم لنا رسالة نقرؤها بسلوكنا في تلقي نصه التفاعلي مفادها: أيها المتلقي الحصيف إن عليك أن تكتشف لتفهم، وعليك أن تكتشف لتستمع، وعليك أن تكتشف لئلا تتوه في هذا البوح اللامتناهي، ليس عليك أن تتأوّل بل عليك أن تكتشف؛ فإن هناك خبايا بنيوية داخل النص لا يمكن الوصول إليها إلّا بالبحث، إن اكتشفتها تغيّرت ملامح الدلالة في النص، إنه يقول: لنا أن نقول ولكم أن تكتشفوا فتتفاعلوا.

          ومن ثمَّ فإنّ للكشف وظيفة لا تختلف عن الوظيفة التي حددها هايمس (1964م) للسياق؛ إذ رأى أنّه يؤدي وظيفة مزدوجة؛ فهو يحصر مجال التأويلات الممكنة، ويدعم التأويل المقصود[4]؛ فالمتلقي في خضم عملية البحث والاستكشاف عن هذه المواطن في النص التفاعلي لا يعدم أن يفوز بإحدى اثنتين: أولاهما: أنه قد يقع عليها فتحيله إلى الطبقة الثانية أو المستوى الثاني من النص التفاعلي فتكتمل عنده الدلالة، وأخراهما: أنه قد يخطئ هذه المواطن بأن يتوقع نقطة أخرى فيكون في الواقع قد تمثل في نفسه نصًّا رديفًا آخر يوازي نص المنتج للنص، وهو ما يتولد عنه مزية أخرى لوجود مواطن بها حاجة إلى الكشف في النص التفاعلي، إذ تتمثل هذه المزية في ضمان التفاعل الذهني من لدن المتلقي مع النص التفاعلي؛ إذ إن وجود هذه النقاط يحتم على الذهن أن يبقى منغمسًا في عملية بحث وترقب وتوقع مستمرة، فيعيش حالة التخييل الكامل، فضلا على أنه يصبح ساحة لزوبعة من التكهنات التي تفتح الأفق نحو نصوص رديفة مثلما أشرنا آنفًا، وهذه حالة سرمدية فيه؛ فهو ما أن يجد نقطة حتى يستغرق في البحث عن الأخرى وهكذا.

          إن في تضمين البنية الأدبية للنص التفاعلي هذه النقاط بديلًا بؤريًا للكلمة البؤرة؛ إذ تطغى على النص ما يمكن الاصطلاح عليه (البؤرة الايقونة) فتتحوّل عملية التبئير بدلالتها من كلمة تتصرف بها ثقافة المتلقي إلى نص متكامل يشتمل على جملة من المعطيات المحددة لمعنى النص الأصلي (=الأول).

          فضلًا على كل ما تقدم فإن عملية الكشف التي حددناها في هذا النص التفاعلي تضفي عليه غناءً دلاليًا، يتمثل في ما يمكن الاصطلاح عليه بالبطون الدلالية التي تعني – ببساطة ساذجة – أن للنص مستويات من الدلالة مترتبة من السطح باتجاه العمق لا يمكن استكناهها إلّا عبر الكشف عن النقاط التي تحيل إلى المستويات الأُخر المتعاقبة في النص التفاعلي، ومن دون هذه الكشف فإن المتلقي سيبقى أسير الفهم السطحي (=الظاهري) للنص الأدبي، ولعمري فإني أرى في هذا الفعل نمطًا لآخر يمكن أن يضاف لما اجترحه الشاعر فيما عُرف بالقرآنية؛ إذ يمكن أن يكون وجه دخوله في هذه الظاهرة الأدبية من جهة الدلالة الطبقية التي تنكشف كل طبقة فيها للمتلقي بحسب كفاءته وقدرته على الكشف.

          إن في هذا النزوع نحو إخفاء بعض الجزئيات التي تؤدي وظيفة توجيهية للناظر في النص إعرابًا عن تأثر للشاعر بالفلسفة وحبٍّ له في أن يجعل الناظر في النص يقفو أثر الفيلسوف في استكشاف الحقائق المرتبطة بالظاهرة ومحاولة إيجاد المفاتيح التي تطلعه على أفق الفهم الصحيح.

ومن ثم فنحن أمام انتقالة نوعية في النتاج الأدبي تصدر عن رؤية تحفزها الرغبة في منح المتلقي شعورًا بالانصهار والتماهي مع الحمض التفاعلي للنص فلا يجد بُدًّا من الإذعان لتراتبيته الرائبة لصدع الاتجاه الواحد في النتاج الأدبي السائد.

 

[1] . ما لا يؤديه الحرف، نحو مشروع تفاعلي عربي للأدب، الدكتور مشتاق عباس معن : 25.

[2] . ما لا يؤديه الحرف، نحو مشروع تفاعلي عربي للأدب، الدكتور مشتاق عباس معن: 25ـ26.

[3] . ينظر: المشاركة التفاعلية قراءة في ما بعد التأويل، د. فاطمة البحراني: 83ـ 84.

[4] . ينظر: لسانيات النص ، مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابي: 52.