عقيلة بني هاشم  وقول الحسين: (( وأنّا أحقُّ من غيّر ))

الدكتورة وفاء عبّاس فيّاض – قسم اللغة العربية – جامعة كربلاء

“حينما أتذكر أنّ هنالك امرأةً بقيتْ وحيدةً عزلاءَ إلا من سلاح الكلمةِ والحقِّ
والعقيدةِ الصحيحةِ هزتْ عروشَ الظالمين أُدركُ أننا لا زلنّا في أولِ الطريق.

لا يختلف منا اثنان على أن السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب (عليهم السلام) كانت شريكةً ومشاطِرةً ورفيقةً للإمام الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) في دربه وقضيته وجهادهِ الرسالي وملحمته الباقية، وقد يكون خروج العائلة الكريمة مع الإمام الحسين(عليه السلام) لأهداف لا نزال نجهلها؛ حتى هذه اللحظة! لأنّ من يقرأ عن هذا الحدث التاريخي المهم يجد فيه كثيراً ممّا يقال.

ولكننا على يقين تامّ بأنّ كلَّ كلمة قالها سيد الشهداء قبل وفي أثناء معركة الطف قد سمعتها عقيلة بني هاشم ووعتها حق وعيها ورعتها حق رعايتها، كيف لا تكون كذلك؟ وهي كما وصفها ابن أخيها الإمام زين العابدين (عليه السلام) بقوله: ((أنتِ يا عمةُ، بحمد الله عالمةٌ غير مُعلَّمة، وفَهِمَة غير مُفهَّمة)).

ومما لا شك فيه أنّ قول الحسين (عليه السلام): (( وأنّا أحقُّ من غيّر )) أنّ زينب كانت معه في هذا الحقّ، وكانت تتمة ذلك عبر مواصلة المعركة خارج ساحتها القتالية بطف كربلاء إنها معركةٌ من نوع آخر.. معركة الكلمة والارتجال بخطب تلو الخطب لا تنفك عن (أنا أحقُّ من غيّر) قيد أنملة.

هي معركة الاحتجاج السلميّ التّي لا بدّ منها بعدما أرتكبت جرائم الكتائب الأمويّة بحق سبط الرسول وأهله وأصحابه الأخيار، فكانت المَهمةُ أن ينقل ما حدث في ذلك المقطع المحاصر أمويّا الى أسماع الناس جميعا من كان منهم مع هذه السلطة لتكون شهادة إدانة له ولهم، ولمن كان ضد هذه السلطة لتكون حجة أخرى للخروج على هذه الطغمة الفاسدة التي اغتصبت كرسيّ خلافة رسول الله، وبتقديرنا قد أحدثت مسيرة الأسارى بقيادة الإمام السجاد وعمته زينب صدمة كبيرة أوقظت النائم! فهل هناك أعزّ ممّا قدّمه الحسين وها هي أخته وبقية أهل بيته أمام أنظارهم. ؟!

لا ريب أنّ الحسين ومعه أخته زينب يعلمان أن المعركة العسكرية ستكلل بالشهادة؛ لذا كانت التضحيات كبيرة جداً فلم تقتصر على جانب دون آخر … ومن تلك التّضحية خروجُ هذا الركب من الأسارى يطاف بهم بين البلدان ليكون من بعدُ وبالا على يزيد ودولة الأمويين باستيقاظ النفوس النائمة وتحريك الإرادات الميتة. إنّها تضحية تستهدف إدامة التضحية ونقلها إلى ساحات أخرى ليتقوض بناء الدولة الأمويّة.

وهكذا كان النجاح في إعطاء الفرصة المناسبة لهذه البطلة لتتحرك من بعده لقيادة رأي جديد للأمة، فاكتملت مسيرة ما بدأه. ومن المحطات التي أثبتت جدارة زينب ورجاحة قيادتها للمرحلة الجديدة موقفها أمام الطاغية ابن زيادة وردّها عليه استفزازه لها بقتل أخوتها وأحبتها وبني عمومتها بقولها: ((ما رأيتُ إلا جميلاً)) ما هو إلا شاهد عيان على صلابتها ورباطة جأشها أمام العدو؛ فهذه الروح الكبيرة والمعنويات العالية التي امتلكتها في تلك اللحظة تكشف لنا عن إيمانها المطلق بما رسمه الإمام (عليه السلام) من رؤى للتغيير؛ فكان جهاده بالقتال وجهادها بالكلمة وتفويت لذة النصر على أعداءه.

وتستمر مسيرتها التغييرية بوقوفها أمام الطاغية الآخر يزيد بن معاوية وكلمتها المشهورة:((فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين)). فقولها:(فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا) إشارة إلى بقاء المنهج المحمدي الأصيل الذي تنتمي إليه، وإلى بقاء من يحمل هذا النهج ويدافع عنه على مدى الدهور، والذي أكد هذه الأطروحة قولها مرة أخرى حين واجهها بقوله اللعين: ((إنّما خرج من الدّين أبوك وأخوك؟؟ )) فردت عليه بجرأة وتحدٍّ: ((بدين الله ودين جدي وأبي وأخي اهتديت أنت وأبوك إن كنت مسلماً)) فهو إعلان رسمي منها بأنه دخل الإسلام على غير قناعة أو مكره على ذلك، أو أنه لم يدخل!! وهي فضيحة تضاف إلى فضائحه أمام الملأ.

ولم تكن مواقفها فقط أمام هذين الطاغيين بل لها العشرات والعشرات من المواقف على طول طريق الإباء والرفض من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام تصحح المفاهيم وتبين الأهداف التي خطها الإمام الحسين(عليه السلام) وتوضح مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) فكانت لسانهم المدافع عنهم والمحامية لشريعة جدّها العظيم…، وتبقى صرخاتها واحتجاجاتها مدويّة على مر الأزمان، والأحرار يستلهمون من عطاءها.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل استمر حتى بعد رجوعها من رحلة الأسر إلى مدينة جدها (المدينة المنورة) إذ أخذت تؤلب الناس وتفضح مكائد بني أمية، ومن كان يدعمهم ويساندهم من القوى الكبرى للقضاء على الإسلام المحمدي ونهجه القويم.

فهذه هي عقيلة بني هاشم في جانبها العقائدي حاملة لدم الشهادة، وحافظة للملحمة الحسينيّة الكبرى، وفاضحة لكيد الأدعياء وأولاد الأدعياء المجاهرين بالظلم والفساد، ومن جانبها النفسيّ والاجتماعيّ مظهرٌ للوقار والهيبة، ورمزٌ للحياء والعفة، ومثالٌ للعزّة والكرامة والرفعة بأبهى صورها وأعلى درجاتها، وأُسوةٌ في الصلاة والثبات على المبدأ والصبر…. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.