من كتاب دروس في علم الاصول – الحلقة الاولى في سؤال وجواب
بقلم الدكتور ضرغام كريم الموسوي – جامعة كربلاء كلية العلوم الاسلامية
- هل توجد شواهد تاريخية تشير الى وجود بذور التفكير الأصولي عند أصحاب الائمة (عليهم السلام) ؟
ج: إنَّ بذور التفكير الأصولي كانت موجودة لدى فقهاء أصحاب الأئمة, بل إنَّ الأئمة ( قد أسسوا لبعض المسائل الأصوليّة كما في روايات التعارض , فقد جاء عن عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي دَيْنٍ أَوْ مِيرَاثٍ، فَتَحَاكَمَا إِلَى السُّلْطَانِ وَ إِلَى الْقُضَاةِ، أَيَحِلُّ ذلِكَ؟ قَالَ %: (مَنْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِمْ فِي حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، فَإِنَّمَا تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَ مَا يَحْكُمُ لَهُ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ سُحْتاً وَ إِنْ كَانَ حَقّاً ثَابِتاً لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ، وَ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُكْفَرَ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالى: } يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ {([1]) . قُلْتُ: فَكَيْفَ يَصْنَعَانِ؟ قَالَ: يَنْظُرَانِ إِلى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مِمَّنْ قَدْ رَوى حَدِيثَنَا، وَ نَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَ حَرَامِنَا، وَ عَرَفَ أَحْكَامَنَا، فَلْيَرْضَوْا بِهِ حَكَماً؛ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً، فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْهُمِنْهُ، فَإِنَّمَا اسْتَخَفَّ بِحُكْمِ اللَّهِ وَ عَلَيْنَا رَدَّ، وَ الرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللَّهِ.قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ كُلُّ رَجُلٍ اخْتَارَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِنَا، فَرَضِيَا أَنْ يَكُونَا النَّاظِرَيْنِ فِي حَقِّهِمَا، وَ اخْتَلَفَا فِيمَا حَكَمَا، وَ كِلَاهُمَا اخْتَلَفَ فِي حَدِيثِكُمْ؟ قَالَ: الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَ أَفْقَهُهُمَا وَ أَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَ أَوْرَعُهُمَا، وَ لَا يَلْتَفِتْ إِلى مَا يَحْكُمُ بِهِ الْآخَرُ. قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّهُمَا عَدْلَانِ مَرْضِيَّانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، لَايُفَضَّلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلى صَاحِبِهِ؟ قَالَ: فَقَالَ: يُنْظَرُ إِلى مَا كَانَ مِنْ رِوَايَتِهِمْ عَنَّا فِي ذلِكَ الَّذِي حَكَمَا بِهِ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِكَ، فَيُؤْخَذُ بِهِ مِنْ حُكْمِنَا، وَ يُتْرَكُ الشَّاذُّ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِكَ؛ فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لَارَيْبَ فِيهِ. وَ إِنَّمَا الْأُمُورُ ثَلَاثَةٌ: أَمْرٌ بَيِّنٌ رُشْدُهُ فَيُتَّبَعُ، وَ أَمْرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ فَيُجْتَنَبُ، وَ أَمْرٌ مُشْكِلٌ يُرَدُّ عِلْمُهُ إِلَى اللَّهِ وَ إِلى رَسُولِهِ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: حَلَالٌ بَيِّنٌ، وَ حَرَامٌ بَيِّنٌ، وَ شُبُهَاتٌ بَيْنَ ذلِكَ، فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ نَجَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَ مَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهَاتِ ارْتَكَبَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَ هَلَكَ مِنْ حَيْثُ لَايَعْلَمُ. قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ الْخَبَرَانِ عَنْكُمْ مَشْهُورَيْنِ قَدْ رَوَاهُمَا الثِّقَاتُ عَنْكُمْ؟ قَالَ: يُنْظَرُ، فَمَا وَافَقَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكِتَابِ وَ السُّنَّةِ وَ خَالَفَ الْعَامَّةَ، فَيُؤْخَذُ بِهِ، وَ يُتْرَكُ مَا خَالَفَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكِتَابِ وَ السُّنَّةِ وَ وَافَقَ الْعَامَّةَ. قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَرَأَيْتَ، إِنْ كَانَ الْفَقِيهَانِ عَرَفَا حُكْمَهُ مِنَ الْكِتَابِ وَ السُّنَّةِ، وَ وَجَدْنَا أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ مُوَافِقاً لِلْعَامَّةِ، وَ الْآخَرَ مُخَالِفاً لَهُمْ، بِأَيِّ الْخَبَرَيْنِ يُؤْخَذُ؟ قَالَ: مَا خَالَفَ الْعَامَّةَ، فَفِيهِ الرَّشَادُ. فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَإِنْ وَ افَقَهُمَا الْخَبَرَانِ جَمِيعاً؟ قَالَ: يُنْظَرُ إِلى مَا هُمْ إِلَيْهِ أَمْيَلُ حُكَّامُهُمْ وَ قُضَاتُهُمْ، فَيُتْرَكُ، وَ يُؤْخَذُ بِالْآخَرِ.قُلْتُ: فَإِنْ وَافَقَ حُكَّامُهُمُ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعاً؟ قَالَ: إِذَا كَانَ ذلِكَ، فَأَرْجِهْ حَتّى تَلْقى إِمَامَكَ؛ فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَاتِ) ([2]), وطرق قبول الروايات, وبعض الأصول العمليّة فقد روي عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (كُلُّ شَيْءٍ هُوَ لَكَ حَلَالٌ حَتّى تَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ، فَتَدَعَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ، وَ ذلِكَ مِثْلُ الثَّوْبِ يَكُونُ قَدِ اشْتَرَيْتَهُ وَ هُوَ سَرِقَةٌ، أَوِ الْمَمْلُوكِ عِنْدَكَ وَ لَعَلَّهُ حُرٌّ قَدْ بَاعَ نَفْسَهُ، أَوْ خُدِعَ فَبِيعَ، أَوْ قُهِرَ، أَوِ امْرَأَةٍ تَحْتَكَ وَ هِيَ أُخْتُكَ، أَوْ رَضِيعَتُكَ، وَ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا عَلى هذَا حَتّى يَسْتَبِينَ لَكَ غَيْرُ ذلِكَ، أَوْ تَقُومَ بِهِ الْبَيِّنَةُ) ([3]), وقد وجدت هذه البذور منذ أيام الصادقين c على المستوى المناسب لتلك المرحلة، ومن الشواهد التاريخية على ذلك ما ترويه كتب الحديث من أسئلة ترتبط بجملة من العناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط وجهها عددٌ من الرواة إلى الإمام الصادق % وغيره من الأئمة ( وتلقوا جواباً منهم، كما في رواية زُرَارَة، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَ لَاتُخْبِرُنِي مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ، وَ قُلْتَ: إِنَّ الْمَسْحَ بِبَعْضِ الرَّأْسِ، وَ بَعْضِ الرِّجْلَيْنِ؟….فَقَالَ: }وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ{ فَعَرَفْنَا حِينَ قَالَ: }بِرُؤُسِكُمْ{ أَنَّ الْمَسْحَ بِبَعْضِ الرَّأْسِ؛ لِمَكَانِ الْبَاءِ،…)([4]), فإنَّ تلك الأسئلة تكشف عن وجود بذرة التفكير الأصولي عندهم. ويعزز ذلك أن بعض أصحاب الأئمة ألفوا رسائل في بعض المسائل الأصوليّة؛ كهشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادق % الذي روي أنه ألف رسالة في الألفاظ .
([2])الكليني : الكافي 1: 167ـ 171.