من كتاب شرح حكم نهج البلاغة للمؤلف الشيخ عباس القمي
تذلّ الأمور للمقادير، حتّى يكون الحتف في التّدبير (1) –. [1] قال ابن أبي الحديد: إذا تأملت أحوال العالم وجدت صدق هذه الكلمة ظاهرا، و لو شئنا أن نذكر الكثير من ذلك لذكرنا ما يحتاج في تقييده بالكتابة مثل حجم كتابنا هذا. [2] أي كتاب شرحه على النهج.
ثمّ ذكر قليلا منه، طوينا عن ذكره كشحا.
توقّوا البرد في أوّله، و تلقّوه في آخره، فإنّه يفعل في الأبدان كفعله في الأشجار، أوّله يحرق، و آخره يورق (2) -. [3]
هذه مسألة طبيعيّة قد ذكرها الحكماء، قالوا: لمّا كان تأثير الخريف في الأبدان، و توليده الأمراض كالزكام و السعال و غيرهما أكثر من تأثير الربيع، مع أنّهما جميعا فصلا اعتدال، و أجابوا بأنّ برد الخريف يفجأ الإنسان و هو معتاد للحرّ بالصيف فينكأ فيه، و يسدّ مسامّ دماغه، لأنّ البرد يكثف و يسدّ المسامّ فيكون كمن دخل من موضع شديد الحرارة إلى خيش [1] بارد.
فأمّا المنتقل من الشتاء إلى فصل الربيع فإنّه لا يكاد برد الربيع يؤذيه ذلك الأذى، لأنّه قد اعتاد جسمه برد الشتاء، فلا يصادف من برد الربيع إلاّ ما قد اعتاد ما هو أكثر منه، فلا يظهر لبرد الربيع تأثير في مزاجه، على أنّ الصيف و الخريف يشتركان في اليبس فإذا ورد البرد حينئذ ورد على أبدان استعدّت بحرارة الصيف و يبسه للتخلخل و تفتّح المسامّ و الجفاف، فاشتدّ انفعال البدن عنه، و أسرع تأثيره في قهر الحرارة الغريزيّة، فيقوى بذلك في البدن قوّتا البرد و اليبس اللّتان هما طبيعة الموت، فيكون بذلك يبس الأشجار و احتراق أوراقها، و ضمور الأبدان و ضعفها.
[1] الخيش: قيل: هو بيت يتّخذ من أغصان الخلاف بورقها، و يرشّ عليه الماء ليضربه الهواء فيبرد، يتّخذ للجلوس فيه بالصيف. كذا قيل. منه (ره)
فأمّا لم أورقت الأشجار و أزهرت في الربيع دون الخريف؟فلما في الربيع من الكيفيّتين اللّتين هما منبع النموّ و النفس النباتيّة، و هما الحرارة و الرطوبة، و الخريف خال من هاتين الكيفيّتين و مستبدل بهما ضدّهما، و هما البرودة و اليبس المنافيان للنشوء و حياة الحيوان و النبات. [1]
تنزل المعونة على قدر المئونة (1) -. [2]
المئونة : التعب و الشدّة، و المراد أنّ الشدّة و الثقل بالعيال و نحوهم معدّ لاستنزال معونة اللّه برزقه و قوّته على القيام بأحوالهم و دفع المئونة من جهتهم.
و قد مرّ قريبا من هذا في قوله عليه السلام: «استنزلوا الرزق بالصدقة» . [3]
ترك الذّنب أهون من طلب التّوبة (2) -. [4]
إذ الترك لا كلفة فيه لكونه عدما، بخلاف التوبة، فإنّه إذا واقع الإنسان الذنب، ثمّ طلب التوبة، فقد لا يخلص داعيه إليها، ثمّ لو خلص فكيف له بحصولها على شروطها، و لا ريب أنّ ترك الذنب من الابتداء أسهل من طلب توبة هذه صفتها.
[1] نقل المؤلّف الشارح (ره) أقوال الحكماء من شرح ابن أبي الحديد 18-319 و شرح ابن ميثم 5-311.
[2] نهج البلاغة، الحكمة 139.
[3] نهج البلاغة، الحكمة 137.
[4] في نهج البلاغة، الحكمة 170: طلب المعونة.