من كتاب شرح حكم نهج البلاغة للمؤلف الشيخ عباس القمي
خذ من الدّنيا ما أتاك، و تولّ عمّا تولّى عنك، فإن أنت لم تفعل فأجمل في الطّلب (2) -. [3]
الإجمال في طلب الدّنيا طلبها برفق من الوجه الذي ينبغي، و على الوجه الّذي ينبغي، و هي من الألفاظ النبويّة، قال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ روح الأمين نفث في روعي أنّه لن تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، [ألا- ظ]فأجملوا في الطلب. [4]
الدّهر يخلق الأبدان، و يجدّد الآمال، و يقرّب المنيّة، و يبعّد [1]
الأمنيّة، من ظفر به نصب، و من فاته تعب (1) -. [2]
إخلاق الدهر للأبدان إعداده لضعفها و فسادها بمروره، و ما يلحق أجزاءه و فصوله من الحرّ و البرد و المتاعب المنسوبة إليه، و تجديده للآمال بحسب الغرور الحاصل بالبقاء، و الصّحة فيه، و أكثر ما يعرض ذلك للمشايخ، فإنّ طول أعمارهم و تجاربهم لما يعرض فيه من الحاجة و الفقر، يغريهم بالحرص على الجمع، و مدّ الأمل فيه لتحصيل الدّنيا، و تقريبه للمنيّة بحسب إخلاقه للأبدان (2) -، و تبعيده للأمنيّة بحسبتقريبه للمنيّة.
و من ظفر بالدهر، شقي بضبطها و حفظها، و من فاته، تعب في تحصيلها.
و لا يخفى ما في كلّ من القرينتين من السجع. [1]
قال بعض الحكماء: الدّنيا تسرّ لتغرّ، و تفيد لتكيد، كم راقد في ظلّها قد أيقظته، و واثق بها قد خذلته، بهذا الخلق عرفت، و على هذا الشرط صوحبت.
و قال شاعر فأحسن: [2]
كأنّك لم تسمع بأخبار من مضى # و لم تر بالباقين ما صنع الدهر
فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم # عفاها فحال الريح بعدك و القطر
و هل أبصرت عيناك حيّا بمنزل # على الدهر إلاّ بالعراء له قبر
لا تحسبنّ الوفر مالا جمعته # و لكنّ ما قدمت من صالح وفر
مضى جامعوا الأموال لم يتزوّدوا # سوى الفقر يا بؤسى لمن زاده الفقر
فحتّام لا تصحو و قد قرب المدى # و حتّام لا ينجاب عن قلبك السكر
بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا # و تذكر قولي حين لا ينفع الذكر
و ما بين ميلاد الفتى و وفاته # إذا انتصح الأقوام أنفسهم عمر
لأنّ الذي يأتيه شبه الذي مضى # و ما هو إلاّ وقتك الضيق النّزر
فصبرا على الأيّام حتّى تجوزها # فعمّا قليل بعدها يحمد الصبر
[3] نهج البلاغة، الحكمة 393.
[4] الكافي 2-74.
قال في النهاية 5-88-مادّة نفث: نفث في روعي: أي أوحى و ألقى، من النفث بالفم، و هو شبيه بالنفخ، و هو أقلّ من التفل.
و قال في المصباح المنير 1: 136-مادّة جمل: أجملت في الطلب: رفقت.
[1] في النهج: يباعد.
[2] نهج البلاغة، الحكمة 72.
[1] في القرينتين الأوليين السجع المتوازن، و في المتوسطتين السجع المطرّف، و في الأخيرتين السجع المتوازي.
[2] شرح ابن الحديد 18-218.