الدكتور مسلم مالك الاسدي / كلية العلوم الاسلامية / جامعة كربلاء
في ارض بوار تبلّج اسمها من كرب وبلاء ، تحيطها صحراء شاسعة ، وقف بينه وبين ابن بنت نبيه الاكرم 30000 الف مقاتل ، غرتهم الدنيا ، واشربت اعناقهم لغرورها وتسامقت رؤسهم لانتظار الجائزة المفروضة ، الممزوجة بالعار والويل والثبور ، كيف لا ومقابلها رأس ابن بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم )وسبطه الاصغر والامام الملتحف بكساء النبوة وبنور جبرائيل ، والمعجون بنور الزهراء وعلي ( عليهما السلام )والمرافق لنصفه الثاني السبط الاول الحسن (عليهم السلام)؟, فوقف ناصحا مرشدا قائلا بصوته الهادر بخطبة عصماء تعج بالروح وبتباريح المعاني الانسانية والاجتماعية :
( أيّها النّاس اسمعوا قَولي، ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما هو حقّ لكم عليَّ، وحتّى أعتذر إليكم من مَقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النّصف من أنفسكم، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليَّ سبيل) .
إذ أن من حق الامة التي تسربلت بالظلم ، وتغنت بمعاقرة مدامة الظالم ، وسكرت بموائد الحاكم وبأكياس ذهبه , أن يقف بقية الله في أرضة والامام المنتجب صادحا بالقول ، ناصحا للجموع المنتظرة لتعتصر دمه ، وتشفي غليلها من امامها الصادح بالحق, إنها لمحة اجتماعية اراد الامام أن يعيد نفوسهم إلى اساس خرجوا عليه ، وإلى حقيقة تنبلج كشعاع الشمس امامهم ، تجمعت في كلمة (أعظكم بما هو حق لكم علي ) إنه حق الامام القائد العالم بخبايا الامور، المتصدي لقيادة الامة ، وحامي شريعتها السمحاء .
ومنها قوله :(0 وإنْ لَم تقبلوا مِنّي العذر ولَم تعطوا النّصف من أنفسكم، فأجمعوا أمركم و شركاءكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة. ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون)) , وما أعظمسيد القوم وهو يعتذر عنهم لما سيصيبهم من مهالك وآثام وليال طوال، ستمزقهم خناجر التيه ، وآلام النفس قرأها الامام وقالها انصفوا انفسكم ولا توردوها في مهالك الندم ، فأن لم تستطيعوا فأقدموا بسيوفكم فلن ينفعكم في قتلي لومة لائم ، فجهنم قد فغرت فاهها لتتلقفكم سراعا قبل أن تتنعموا بمغانم قتلي .
ثمّ قال: (عباد الله، اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر، فإنّ الدنيا لَو بقيت على أحد أو بقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحقّ بالبقاء وأولى بالرضا وأرضى بالقضاء,غير أنّ الله خلق الدنيا للفناء، فجديدها بالٍ ونعيمها مضمحل وسرورها مكفهر، والمنزل تلعة والدار قلعة, فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى، واتقوا الله لعلّكم تفلحون)
مرة اخرى يعود الداعية لله لخط النبوة لفكرة التحذير من مغبة النكوص على الاعقاب والتوهان في مسالك الكفر والانزلاق الى منحدر الشرك ، والانحراف عن الطريقة التي رسمت بالدماء والالم من قبل النبي الاعظم ، ومن تعاور فكرته من أصحابه الاوائل ، فالدنيا الى زوال لا ينعم فيها احد بالديمومة والسرمدية والبقاء والخلود ، ولو كان هنالك مستحقا للبقاء فيها فالأنبياء هم الاحق ولكن أين هم منها ؟ لقد ذهبوا الى رحمة الله بانتظار القيامة والوقوف امام رب العزة ، نعم الدنيا زائلة جديها زائل وبالي ونعيمها مضمحل منزل تلعة ، والتَلعَة: جمع تلعات وتِلاع وتِلع (ضد) ما على من الأرض وما سفل منها,وغالباً ما يستخدم المنزل في السفر حين المكث القليل، ونزولاً ومنزُلا ومنزِلا القوم وبالقوم وعلى القوم حلَّ بهم, فهي ذات منزل قليل لا يدوم ، ما تنفك ان تأخذ من فيها سراعا سلاعا حتى لا تذر من المخلوقات شيئا وتنفذ شخوصهم من فوق البسيطة دون أثر أو عين, فالكل إلى زوال فأين أنتم مما تقدم, ثم يعود مرة أخرى للتذكير بحال الدنيا وما هو منتهاها واين مستقر المغتبط بها فيقول :
((أيّها النّاس إنّ الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفة بأهلها حالاً بعد حال ))
والانتقالة الاخرى مستمرة في التأكيد على الفناء والزوال ,ولعل هذا الامر مرده إقبال اغلب من تخضبت يده بحبر القصب في دعوة الامام للإقبال على الكوفة , ولكنهم نكثوا العهد بعد أن اغرتهم السلطة بالولاية وقيادة امصار المسلمين الري وغيرها من الولايات التي رسمت لهم مقابل قتل ابن البتول , فكانت الذكرى في موضع التشابك هي السبيل الوحيد للبشر ليعودوا الى الهداية والى الصواب , وأن تفتح العيون امامهم علّهم يوقفوا ويجعلوا المغرور يأنف من غرّته والشقي يتبرأ من فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها وتُخيّب طمع من طمع فيها, وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم وأحلَّ بكم نقمته، رجاء العيش الكريم والحرية المطلوبة وعدم الركون الى الذل والخنوع بعد ان تُشترى الضمائر وتنتفي الصدقات التي عرضت عليهم لكي يقدموا على فعلتهم القبيحة , التي ستغضب الله عز وجل غضبة ستجعل عاقبتهم وخيمة وستلبسهم الذل في دنياهم وفي الاخرة ، انها قراءة المستقبل ودقة الرؤيا من منطق معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفة , انه استشراف للمستقبل القريب والبعيد وكأن القوم يتسكعون في ازقة الكوفة ودروبها طلبا للصفح والغفران فلا يجدوه من انفسهم اولا ومن عوائلهم ومن محيطهم , وُصموا بالقتلة وأي قتلة قتله الامام الحسين ابن علي وفاطمة سبط محمد (عليهم السلام), فالانتقام قادم لاهوادة فيه تحقق بعد المسير بعد هوينة من تحرك الابل نحو الكوفة في ركب تحرك برؤوس ناطقة بالقرآن , تحنوا على قافلة السبايا وتتحرك بتثاقل تعكس بوهجها ظلم اهل الارض وغرورهم لأهل السماء ومن سكن فيها تعكس مدارك الانسان الضعيفة ونفسه اللئيمة المتطلبة التي تقدم على اشياء لا يتحملها العقل وتأنف منها الدواب والوحوش والمدر ليختمها عليه السلام :
(فنِعمَ الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم ؛ أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد (صلى الله عليه وآله)، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدونقتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبّاً لكم ولِما تريدون. إنّا لله وإنّا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين), فالرب ربنا فنحن الكرام والاحرار بقولنا وعملنا وأفعالنا وبئس العبيد أنتم قدمتم البيعة للفاسقين , ومن لف لفهم بعد ان سمت نفوسكم وطهرت من قبل الرسول , عادت فهادنت الشيطان فكبل ايمانكم وحرر الشرك في نفوسكم فتصايحتم لقتل ابن بنت رسول الله , وتعاورتم لذبح ذريته وأهله وأصاحبه نعم لقد تملككم الشيطان فأصبحتم من خلص أعوانه وأصحابه .
مما تقدم ذكره نلاحظ ان خطابه (عليه السلام) :
تشاكلت فيه محاور عدة اسهمت مجتمعة في خلق بؤرة متطلبة من قبل الامام فمن هم امامه ابناء قومه وأصحاب ابيه وجده , قاتلوا معهم وذاقوا الالم تتبعوا الرسول ووليه , ولكن الشيطان تلقفهم بسبب مضغة القلب والطمع فعاود الامام محاولا ان يتلقفهم وان يعيد قلوبهم وعقولهم لجادة الصواب , ولكنهم زاغوا ولم تمر شذرات الكلمات الولائية على قلوبهم التي اشربت بحب المال والجاه ونعيم الدنيا الذي اعمى البصائر وذهب ببقايا النور واحل الظلام في القلوب والنفوس .