طاعة الوالدين….قيمة قرآنية

طاعة-الوالدين....قيمة-قرآنية.jpg

الدكتور محمد حسين عبود الطائي / كلية العلوم الإسلامية جامعة كربلاء

  قال تعالى: )وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ(سورة لقمان/14, وفي الآية قيمتان تتمثل الأولى بشكر الله وتتمثل الثانية بشكر الوالدين, ومع أن (واو) العطف في قولع تعالى :(لي ولوالديك) تشير الى تساوي الشكرين ,وأنه يجب على الإنسان أن يشكر ربه ووالديه بنفس الدرجة, غير أن هذا لا يعني إغفال حقيقة تقدم قيمة الشكر لله على قيمة الشكر للوالدين.

  والسبب يكمن في أن الشكر لله كقيمة عليا، إنما هو شكر يعود على الإنسان وللإنسان قال تعالى: )وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ(سورة النمل/40 ,وقال سبحانه:)وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(سورة لقمان/12,ثم أنه سبحانه يعطي للشكر بعدا يجمع بين نِعم الدنيا ونِعم الآخرة ,إذ يقول جل شأنه : )وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ(سورة ابراهيم/7.

  عليه فشكر الله ــ كيفما يكن ــ هو شكر عائد على الإنسان نفسه ,ثم يأتي شكر الوالدين إلفاتا للأنظار وتنبيها للأفكار على نعمة وجود الوالدين ومشاقهما وخدماتهما وحقوقهما ؛لذا جعل شكر الوالدين في درجة شكر الله, فكما أن المولى سبحانه له الفضل الأسبق في وجود الإنسان وإنشاء الخلق ,فكذا الفضل للوالدين في وجود الإبن ,فلولاهما ــ كسبب مادي ــ لما كان للولد أي وجود مادي في هذه الحياة الدنيا؛ لذا فقد نبّهت الآية ــ ابتداء ــ الى عظيم فضل الوالدين ,ليأتي التنبيه بنحو الوصية بالوالدين , مذكرا بمعاناة الوالدة طيلة فترتي الحمل والرضاع , كم قال:)وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(سورة لقمان/15, والآية تحتوي على ثلاث قيم متبلورة في أوامر ثلاث ,تنتظر من الابن الأخذ بها ,فيما لو ابتُلي بوالدين مشركين ,جاهداه وبذلا وسعهما لكي يشرك بالله ,لأنها قيم تتمثل بأوامر إلهية واجبة التنفيذ, القيمة الأولى عدم الخضوع لهما وطاعتهما في الإشراك بالله ,بقوله تعالى: )فَلَا تُطِعْهُمَا (مع ما منح الخالق لهما من عظيم المقام وبالغ الاهتمام, إذ قرن سبحانه عبادته وتوحيده بالإحسان بهما, قال تعالى: )وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا (سورة ؛غير أنه سبحانه أمر ولدهما بعدم الطاعة في هذا المقام ,وما ذاك إلا لأنَّ الشِّرْكَ بالله ظُلْمٌ عَظِيمٌ, يتجسد في تغييب العقل وتعطيل قدراته في سلوك أسباب الكمال الإنساني ,من خلال عبادة الله سبحانه وتعالى , كما أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .

   والحق إن عدم طاعة الوالدين في الإشراك بالله ,تُعد قيمة تربوية تنهض بعقل الإبن ,وتنفض عنه وتطهره من أدران التقليد الأعمى الذي ألفى عليه والديه , وهذه القيمة مقدمة على القيمة الثانية ,التي أمر الله بها عبده وهي مصاحبة والديه في الدنيا معروفا, حين يقول سبحانه: )وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا( أي صحابا معروفا حسنا ، يرتضيه الشرع ، ويقتضيه الكرم والمروءة ، من خلق جميل وحلم واحتمال مكروه وبرّ وصلة؛ لأن حقهما مشتق من حق الله تعالى.

   من هنا فاتباع سبيل النبي (صلى الله عليه وآله) قيمة تربوية ثالثة , يمكن أن تكون تعويضا الهيا وجزاء ربانيا للعبد المسلم ,الذي لم يطع والديه في الشرك بالله ــ وأعطاهما حقهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ــ , متجسدا بأبوة المصطفى(صلى الله عليه وآله) ؛لأنه ورد عنه (صلى الله عليه وآله) قوله لعلي : ياعلي أنا وأنت أبوا هذه الأمة, فكأن من فقد عطْف أبويه بسبب شركهما ,عوضّه الله جل شأنه بأبوة المصطفى (صلى الله عليه وآله), وقال سبحانه أيضا:)وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير(سورة لقمان/18 ــ19, وفي الآية أوامر إلهية أربعة على لسان لقمان (عليه السلام) ,يتشكل ويتبلور العمل بها ليكون على هيئة قيم تربوية ,أو فلنقل إنها  دعوة للإنسان لأن ينطلق ويتخذ من تلكم الأوامر سبلا للإرتقاء بنفسه نحو عالم القيم العليا والسعي الحثيث في تربيتها ,  وقد تنظمت ضمن نسق قيمي ,أولها: قال تعالى:  )وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ( , أي لا تذل للناس طمعا فيما عندهم, فالآية إذن بمقام دعوة الإنسان الى صوْن نفسه وحفظ كرامته من ذل السؤال , وتسلق أسباب العزة والكرامة كقيم عليا؛ لأنَه) لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ(, فلا ينبغي للمؤمن ان يذل نفسه ,ثم يأتي الأمر الثاني: وهو قوله تعالى: ) ولا تمش في الأرض مرحا( ,أي لا تمش على وجه الأشر والبطر، والخيلاء والتكبر, لينهض بهمة الإنسان نحو قيمة جديدة تتلخص في التواضع وعدم التكبر , ولو تمعنا لوجدنا أن الخلق القرآني يدعو الإنسان الى التلبس بقيمتين أولهما العزة , وثانيهما التواضع ,وإنما تقدمت العزة على التواضع ,بلحاظ أن العزة في نفس العبد ,تؤيسه فيما أيدي الناس من جهة ,وتعزز علاقته بالله من جهة أخرى  ,وتحفظ مقامه في نفوس الناس من حيث الحب والاحترام , من جهة ثالثة