بلاغة الخطاب الثائر للشهيد محمد باقر الصدر

الدكتورة تغريد عبدالامير مرهون – كلية العلوم الاسلامية – جامعة كربلاء

أنتج الشهيد الصدر نداءاته الثلاثة ضمن سياق تفاعلي مع الشعب العراقي قبيل اعتقاله بخطاب يعارض توجهات السلطة ويبني خطابا بديلا تحرريا , يرى فيه تحقيقا لآمال شعب مظلوم حتى وإن انتهى الأمر بشهادته , إذ لا يمكن التحكم في منسوب الدم ضمن حيز الصراعات بين البلاغات المتضادة ففي النداء الاول بتاريخ 15- 6-1979 20 رجب 1399 تجلت البلاغة الأبوية في بداية خطاب السيد في ثوب الاستعارة التي يحيا بها الخطاب ؛ ليكون اكثر اقناعا وتأثيرا على المستمع في قوله : ((إنّي أخاطبك – أيّها الشعب الحرّ الأبي الكريم – وأنا أشّدُّ إيماناً بكَ وبروحك الكبيرة، بتأريخك المجيد ، وأكثرهم اعتزازاً بما طفحت به قلوب أبنائكَ البررة من مشاعر الحبّ والولاء والبنوّة للمرجعيّة ، إذ تدفّقوا إلى أبيهم يؤكّدون ولاءهم للإسلام بنفوس ملؤها الغيرة والحميّة والتقوى، يطلبون منّي أنْ أظَلّ إلى جانبهم أواسيهم وأعيش آلامهم عن قرب لأنّها آلامي)) , فقد مثل الخطاب هنا بلاغة البداية التي تشد النفوس لما يلقى عليها من خطاب , فالسيد لم يعد نفسه مرجعا وقائدا لهذه الجماهير , بل أبا رحيما يحمل آلامهم وآمالهم ويعيش همومهم لتؤدي الاستعارة وظيفتها في استمالة النفوس للخطاب خاصة , وقد اتبعها بعبارات الثبات والمقاومة ((أودّ أنْ أؤكّد لك – يا شعب آبائي وأجدادي – أنّي معَكَ وفي أعماقك، ولن أتخلّى عنك في محنتك وسأبذل آخر قطرة من دمي في سبيل الله من أجلك)).

  وفي النداء الثاني قال: ((وإنّي في الوقت الذي أدرك فيه عمق هذه المحنة التي تمرّ بكَ يا شعبي – يا شعب آبائي وأجدادي- أؤمن بأنّ استشهاد هؤلاء العلماء واستشهاد خيرة شبابك الطاهرين وأبنائك الغيارى تحت سياط العفالقة لن يزيدكَ إلّا صموداً وتصميماً على المضيّ في هذا الطريق، حتّى الشهادة أو النصر)) ؛ ليجيء التكرار عنصراً لافتاً ضمن عناصر الاحتشاد البلاغي المتضافرة في خطاب الشهيد الصدر للشعب العراقي , حتى تؤدي الغرض المقصود  , يحمل التكرار روح تقرير المعنى وتثبيته في النفوس وتنبيه المتلقي لما يعرض عليه من الخطاب , فقد كرر عبارة (يا شعب آبائي وأجدادي ) لتقريرها في نفوسهم من أنه جزء منهم ومقاومته للسلطة من أجلهم, وأنه ثابت صامد في خط المقاومة والجهاد , ومن ذلك تكرار كلمة (الطغاة) في عبارته الشهيرة في النداء الثاني ((لكنّ الجماهير دائماً هي أقوى من الطغاة مهما تفرعن الطغاة ، وقد تصبر ولكنّها لا تستسلم، وهكذا فوجئ الطّغاة بأنّ الشعب لا يزال ينبض بالحياة، ولا تزال لديه القدرة على أن يقول كلمته)) , فهؤلاء ليسوا حكاما يعدلون مرة ويظلمون مرة , بل طغاة تجاوزوا الحد في الظلم والاستبداد ولا سبيل لمواجهة الطاغي إلا بمقاومته , والتكرار يعمل على التأثير الخطابي عبر توالي بدايات العبارات بصورة متكررة في قوله في النداء الثاني : ((  ألا ترون – يا أولادي وإخواني – أنّهم أسقطوا الشعائر الدينيّة التي دافع عنها عليّ وعمر معاً؟!ألا ترون أنّهم ملأوا البلاد بالخمور وحقول الخنازير وكلّ وسائل المجون والفساد التي حاربها عليّ وعمر معاً؟!.

  ألا ترون أنّهم يمارسون أشدّ ألوان الظلم والطّغيان تجاه كلّ فئات الشعب؟! ويزدادون يوماً بعد يوم حقداً على الشعب ، وتفنّناً في امتهان كرامته والانفصال عنه ، والاعتصام ضدّه في مقاصيرهم المحاطة بقوى الأمن والمخابرات، بينما كان عليّ وعمر يعيشان مع الناس وللناس وفي وسط الناس ومع آلامهم وآمالهم.

  ألا ترون إلى احتكار هؤلاء للسلطة احتكاراً عشائريّاً يسبغون عليه طابع الحزب زوراً وبهتاناً؟! وسدّ هؤلاء أبواب التقدّم أمام كلّ جماهير الشعب سوى أولئك الذين رضوا لأنفسهم بالذل والخنوع ، وباعوا كرامتهم وتحوّلوا إلى عبيد أذِلاء)) , وتكرار عبارة ( ألا ترون ) فاتحة استهلالية مؤطرة بالمجاز البصري لعرض أمر مهم  , أراد الشهيد الصدر التنبيه عليه لغرض اقناع المتلقي واستنهاض همته لمقاومة الخطاب السلطوي وتفنيد مزاعمه وتعرية مؤامرته في التفرقة بين أبناء الشعب الواحد , والسبب في ذلك فساد هذا الواقع فعبر هذه الوحدات التكرارية يسرد الصدر مثالب السلطة وطغيانها وفي موضع آخر يقول : ((هذا الكبت الذي فُرض بقوّة الحديد والنار على الشعب العراقيّ، فحرمَه من أبسط حقوقه وحرّياته في ممارسة شعائره الدينية لا يمكن أن يستمر، ولا يمكن أنْ يعالج دائماً بالقوّة والقمع , إنّ القوّة لو كانت علاجاً حاسماً دائماً لبقي الفراعنة والجبابرة! أسقطوا الأذان من الإذاعة فصبرنا! وأسقطوا صلاة الجمعة من الإذاعة فصبرنا! وطوّقوا شعائر الإمام الحسين (عليه السلام) ومنعوا القسم الأعظم منها فصبرنا! وحاصروا المساجد وملأوها أمناً وعيوناً فصبرنا! وقاموا بحملات الإكراه على الانتماء إلى حزبهم فصبرنا! وقالوا: إنّها فترة انتقال يجب تجنيد الشعب فيها فصبرنا! ولكن إلى متى؟! إلى متى تستمرُّ فترة الانتقال؟! إذا كانت فترة عشرة سنين من الحكم لا تكفي لإيجاد الجوّ المناسب لكي يختار الشعب العراقي طريقه , فأيّ فترة تنتظرون لذلك؟!وإذا كانت فترة عشرة سنين من الحكم المطلق لم تتح لكم – أيّها المسؤولون – إقناع الناس بالانتماء إلى حزبكم إلّا عن طريق الإكراه، فماذا تأملون؟!))

   تعمل هذه التقنية الخطابية مع الاستفهام المجازي والتكرار على تحفيز همة الجماهير على مواصلة المقاومة وفضح أساليبه القمعية ومغالطات واقعه , ليتمكنوا من كسر قيود الخوف والتسلط ؛ لذلك يعد سرْد مثالب السلطة حجة إقناعية للتحرر من بوتقة الظلم ومصادرة الحريات الدينية والمذهبية وتوحيد الصفوف لمواجهة السلطة محاولة من الصدر مع جمهوره المؤيد له للسيطرة على حيز الفضاء البلاغي الذي تحتدم فيه الصراعات بين الجماهير وسلطات النظام , وبناء واقع جديد عبر المطالبة بإنجازات  معينة لها أثر على المجتمع العراقي قائلا: ((إنّي أطالب باسمكم جميعاً؛ أطالب بإطلاق حريّة الشّعائر الدينيّة، وشعائر الإمام أبي عبد الحسين (عليه السلام) , وأطالب باسمكم جميعاً بإعادة الأذان وصلاة الجمعة والشعائر الإسلامية إلى الإذاعة , وأطالب باسمكم جميعاً بإيقاف حملات الإكراه على الانتساب إلى حزب البعث على كلّ المستويات , وأطالب باسم كرامة الإنسان بالإفراج عن المعتقلين بصورة تعسّفية وإيقاف الاعتقال الكيفي الذي يجري بصورة منفصلة عن القضاء , وأخيراً أُطالب باسمكم جميعاً وباسم القيم التي تمثّلونها بفسح المجال للشعب ليمارس بصورة حقيقّية حقّة في تسيير شؤون البلاد، وذلك عن طريق اجراء انتخاب حرٍّ ينبثق عنه مجلس يمثّل الأمّة تمثيلًا صادقاً)).

  بالتكرار الاستهلالي بداية الفقرات يؤكد الشهيد الصدر أن مطالبه من السلطة مطالب شعب يتوق الى الحرية في ممارسة شعائره الدينية والعيش الكريم بعيدا عن التعسف والإذلال وليست هي مطالب فرد معين بل مطالب أمة ليمارس الصدر تقنية التجريد البلاغي عبر هذا الخطاب و التي تعمل على خلق كينونة نصية موازية  لأنا المتكلم ومتوحدة معها ومن ذلك ما نجده واضحا في ندائه الثالث والأخير : ((أيّها الشّعب العظيم! إنّي أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهاديّة ، بكلّ فئاتك وطوائفك , بعربكَ وأكرادك ، بسنّتك وشيعتك ؛ لأنّ المحنة لا تخصّ مذهباً دون آخر، ولا قوميّة دون أخرى، وكما أنّ المحنة هي محنة كلّ الشعب العراقي، فيجب أن يكون الموقف الجهاديّ والرّدّ البطوليّ والتلاحم النضالي هو واقع كلّ الشعب العراقي.)) , وكذلك قوله : ((فأنا معك يا أخي وولدي السّنّي بقدر ما أنا معكّ يا أخي وولدي الشيعي .. أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام؛ وبقدر ما تحملون من هذا المشعل العظيم لإنقاذ العراق من كابوس التّسلّط والذّل والاضطهاد.))

   وقد وتوارد التجريد البلاغي في النداءات الثلاثة بكثرة يُشعِر بأن المتكلم – الصدر- والجماهير العراقية واحد في الوطن والهدف ولا تماهياً بينهما  , ثم ينشط الذاكرة الخطابية للجمهور السني بعد إشاعة النظام بأنّ حركة الشهيد الصدر شيعية فقال في ندائه الأخير : ((كلُّنا نحارب عن راية الإسلام وتحت راية الإسلام مهما كان لونها المذهبيّ, إنّ الحكم السّنيّ الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة- قبل نصف قرن- بوجوب الجهاد من أجْله، وخرج مئاتُ الآلاف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الإسلام ، ومن أجل حماية الحكم السنّي الذي كان يقوم على أساس الإسلام , إنّ الحكم الواقع اليوم ليس حكماً سنيّاً، وإن كانت الفئة المتسلّطة تنتسب تأريخيّاً إلى التّسنّن , إنّ الحكم السّنّي لا يعني حكم شخص ولد من أبوين سنّيين، بل يعني حكم أبي بكر وعمر الذي تحدّاه طواغيت الحكم في العراق اليوم في كلّ تصرّفاتهم، فهم ينتهكون حرمة الإسلام وحرمة عليّ وعمر معاً في‏ كلّ يوم، وفي كلّ خطوة من خطواتهم الإجراميّة.))

   وهو بذلك يجعل الشعب العراقي واحدا ومتوحدا في قرارته ومطالبهم واحدة , فتنشيط الذاكرة الخطابية يسهم في فهم الواقع والتغيير في المستقبل واستجابة الجماهير العراقية لنداء السيد والعمل من أجل التغيير هو الغاية النهائية للخطاب ؛ لأن هذه الجماهير هي الكيان المستهدف بالإقناع والتأثير .

  على الرغم من إن هذه المطالب قد تكلف الانسان حياته ولكن عليه أن يثبت ويصبر حتى النصر أو الشهادة كما يرى الصدر بقوله : ((إنّي أعلم أنّ هذه الطلبات سوف تُكلّفني غالياً وقد تكلّفني حياتي ، ولكنّ هذه الطلبات ليست طلب فرد ليموت بموته ، وإنّما هذه الطلّبات هي مشاعر أمّة وإرادة أمّة ولا يمكن أنْ تموت أمّة تعيش في أعماقها روحُ محمّد وعليّ والصفوة من آل محمّد وأصحابه , وإذا لم تستجب السلطة لهذه الطّلبات، فإنّي أدعو أبناء الشعّب العراقي الأبيّ إلى المواصلة في حمل هذه الطلبات مهما كلّفه ذلك من ثمن ؛ لأنّ هذا دفاعٌ عن النفس وعن الكرامة، وعن الإسلام رسالة الله الخالدة )) , فهي ليست مطالب بالحكم أو الرئاسة والتسلط على الناس , بل هي مطالب أمة ترفع لواء الإسلام ؛ ليعلن بعدها بقوله :((أنا أعلن لكم – يا أبنائي – أنّي صَمَمّتُ على الشهادة! ولعلّ هذا آخر ما تسمعونه منّي ، وإنّ أبواب الجنّة قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء حتّى يكتب الله لكم النّصر! وما ألذّ الشهادة التي قال عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّها حسنة لا تضرّ معها سيّئة , والشهيد بشهادته يغسل كلّ ذنوبه مهما بلغت. فعلى كلّ مسلم في العراق وعلى كلّ عراقي في خارج العراق أن يعمل كلّ ما بوسعه – ولو كلّفه ذلك حياته – من أجل إدامة الجهاد والنضال لإزالة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب))

   فهو هنا خاطب الوجدان والعواطف في حديث عن الشهادة وثوابها ورحيله المحتوم في ظل ظرف مقاومة السلطة  , قبل أن يستشرف للمستقبل وما سيؤول إليه واقع المؤمنين بعده , وهذا من النهايات المؤثرة التي وضعها في النداء الثاني .

  أما خاتمة النداء الأخير قبيل استشهاده فقد حملت خلاصة رأيه وما يرده ان يبقى في عقل العراقي وقلبه حاملا شذا من ذكرى مرجع أمة وفارسها في العلم والميدان قال الشهيد الصدر : ((يا إخواني وأبنائي من أبناء الموصل والبصرة .. من أبناء بغداد وكربلاء والنجف … من أبناء سامرّاء والكاظميّة .. من أبناء العمارة والكوت والسليمانيّة .. من أبناء العراق في كلّ مكان، إنّي أعاهدكم بأنّي لكم جميعاً ومن أجلكم جميعاً ، وأنّكم جميعاً هدفي في الحاضر والمستقبل .. فلتتوحّد كلمتكم، ولتتلاحم صفوفكم تحت راية الإسلام ، ومن أجل إنقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلّطة، وبناء عراق حرّ كريم تغمره عدالة الإسلام وتسوده كرامة الإنسان، ويشعر فيه المواطنون جميعاً – على اختلاف قوميّاتهم ومذاهبهم – بأنّهم إخوة، يساهمون جميعاً في قيادة بلدهم وبناء وطنهم، وتحقيق مثلهم الإسلاميّة العليا المستمدّة من رسالتنا الإسلامية وفجر تاريخنا العظيم.))

………………………………….

المصادر

* نداءات السيد محمد باقر الصدر الثلاث ,  وكالة تسنيم الدولية للأنباء, موقع في الانترنت.

* الخطابة , أرسطو , تحقيق: عبد الرحمن بدوي , دار القلم , بيروت , 1979.

*بلاغة الجمهور مفاهيم ومنطلقات , تحرير وتقديم : د.صلاح حسن حاوي ود.عبد الوهاب صديقي , دار شهريار , البصرة- العراق , ط1, 2017.

*البلاغة الثائرة خطاب الربيع العربي عناصر التشكل ووظائف التأثير , اعداد وتقديم : د.سعيد العوادي , دار شهريار,  البصرة – العراق , ط1, 2017.

*بلاغة الجمهور العلوم الانسانية في عصر استجابات الجماهير , مجلة العلامة التي تصدر عن مخبر اللسانيات النصية وتحليل الخطاب , جامعة قاصدي مرباح الجزائر بالتعاون مع جامعة المثنى العراق ,العدد 13, 2021.