قراءة في المعطى المعرفي للدكتور علي المؤمن – (الإجتماع الديني الشيعي) مثالا

صورة مقالات الاساتذة

الدكتور امجد حميد عبد الله محمد – جامعة كربلاء – كلية العلوم الاسلامية

أستاذ المناهج النقدية والفكر الإسلامي

أولا: الدين والاجتماع:-

    الدين ذلك الغيب الخفي  الذي يحكم عالم الشهادة، والذي مازال – برأيي المتواضع- غير مكتشف تماما، وهو محتاج إلى جهود مضنية وكبيرة لاستكشافه، ومع ذلك فإن المحاولات مهما كانت متواضعة فهي مهمة بهذا الصدد، لاسيما مع الأخذ بنظر الاعتبار تشخيص أستاذ علم الأديان في جامعتي (روما لاسابيينسا) و (الأورينتالي) الإيطاليتين الدكتور عز الدين عناية ، الذي يرى في مقالته التمهيدية لترجمة كتاب (علم الاجتماع الديني) أنه “يسود في مجال دراسة الدين في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة ،تفريط هائل في الأدوات المعرفية والعلمية المتصلة بتتبع الظواهر الدينية، وتكاد الأعمال المؤلفة أو المترجمة في علم الاجتماع الديني لا تتجاوز عدد أصابع اليد”(د.سابينو أكوافيفا ود.إنزو باتشي / 2011: 7).

    ويلفت الدكتور عز الدين عناية القارئ إلى أهمية ملاحظة تكاد تكون مفصلا مقطوعا يعيق نمو العمل البحثي في مجال الاجتماع الدين لدى الدارسين العرب، وهذه الملاحظة هي أنه “غالبا ما انفصلت الدراسة في كلية الشريعة عن الدراسة في قسم علم الاجتماع” (د. سابينو أكوافيفا ود. إنزو باتشي/ 2011: 8)،ولأهمية جهد الدكتور عز الدين عناية في الكتابة والترجمة، وسعة اطلاعه على المشهد العلمي الخاص بحقل علم الاجتماع الديني ، فقد اعتمدت رأيه وملاحظته اللذين مر ذكرهما لما تمثلانه من أهمية ، ولذا وجدت أنه من الضروري الكتابة عن تجربة الدكتور علي المؤمن في دراساته القيمة التي اتخذت مجال علم الاجتماع الديني ميدانا لها، وتخصصت منه في الاجتماع الديني الشيعي، الذي يعد الساحة الأفقر في عدد البحوث والدراسات من هذا النوع، والجهة الأكثر غموضا بالنسبة لدارسي علم الاجتماع الديني بشكل عام.

  
    يتخذ المفكرون وحملة الأقلام مناهج فكرية متعددة كل بحسب ما يرى، وتحتل الموضوعات الإنسانية المرتبة الأولى من حيث اتساع مساحة الاشتعال ومن حيث تعقيد القضايا وتشعبها، ومن حيث صعوباتها الإجرائية، كون الإنسان يمثل هدفاً متحركاً حياً تصعب السيطرة المختبرية عليه، كما هو واضح، وحين يتعلق الأمر بالفكر الإسلامي يصبح أكثر تعقيداً لأسباب كثيرة، لعل أبرزها صعوبة التعامل مع ظاهرة التدين كونها لا تستجيب للملاحظة المختبرية، ولا لفعل التجريب، وهما عنصران ضروريان في أفق الدراسة العلمية، فضلا عن أن من يقوم بالدراسة هو أحد أبناء المجتمع وفرد من أفراده الخاضعين لقوانينه، فلسنا خارج التجربة لكي نضمن الحياد في ملاحظتها وتتبعها وفهمها، ثم تشخيصها وتقويمها والحكم عليها.

    على أية حال، لدراسة الاجتماع الديني هناك ” أربعة مفاهيم جوهرية ينبغي أن تحضر كمنطلقات : في مستوى أول، إن الدين له جذور نفسية عميقة بصفته تعبير عن تدابير يضعها الفرد قيد التنفيذ أمام حاجاته المنقوصة، بما يخلقه غياب إشباعها من حرج لديه، وأمام الحدود الموضوعية للوجود، وفي مستوى ثان، تأثر الدين – على الأقل في جانب منه- بالمحيط الاجتماعي والثقافي، وبالإطار المؤسساتي، وبالكون القدسي الذي يتجذر فيه، علما أن المعطى الأخير يضفي خصوصية على التجربة.

   في مستوى ثالث، كون المسألة تتعلق بعملية إشباع متعالية لبعض الحاجات، وسموّ نفسي بالأهداف الحيوية لوجودنا، تنحو التجربة الدينية- على الأقل تلك المعتبرة- إلى التخفيف من حدة الضيق، وتنتهي على ما يبدو لتصير مخزون الشخصيات الأقل اضطرابا، ضمن ما هو في مستوى رابع، وبالنهاية، يولّد إشباع الحاجات أو غيابه جملة من الاستراتيجيات النفسية، من بينها في مجال الإشباعات المتعالية نجد الإشباع الديني”(سابينو أكوافيفا وإنزو باتشي/ 2011: 10- 11).

  ثانيا/ دراسة الاجتماع الديني بين المشكلة والحل:-

  إن غلبة التنظير على الفكر المطروح إسلامياً على الساحة العالمية، جعل النظر فيه أقرب إلى المشكلة المضافة من الحل المنشود، لابتعاد الأفق التنظيري عن معطيات الواقع ورؤاه العملية، وغياب المقاربات المعرفية ذات الأصول الواقعية النابعة من رحم المجتمع وأرض الواقع وبؤرة معاناة الإنسان، وفي خصوص التجربة العراقية الإسلامية؛ هناك سمات محددة تتطلب كتّاباً ومفكرين من طراز خاص، قد واكبوا الحراك المجتمعي ثقافياً وسياسياً واقتصادياً ومعرفياً وغير ذلك. وقد شاهدنا عدداً ممن طرحوا أسماءهم في الساحة منظرين سياسيين واقتصاديين وإداريين ومختصين في البحث العلمي، ولكل منهم إنجازاته واخفاقاته بطبيعة الحال البشرية، ولكن ما لفت نظري – باعتبار تخصصي في المناهج النقدية والفكر الإسلامي- وجود كاتب ومفكر ينطلق من الأصل الوجودي، وهو الإنسان، ليلاحق سماته المجتمعية وحركته الموجية عبر المعطى الحضاري، عمودياً مرة، وعبر الحراك البيني الأفقي مرة أخرى. فعلى الرغم من أهمية الجوانب الاقتصادية والسياسية والإدارية، ألّا أن الجانب الاجتماعي ببعده المعرفي يبقى هو الأساس عند الدكتور علي المؤمن، على أن الوظيفة الاجتماعية للدين تبقى عنده هي الأكثر حضورا، وهذا يذكرنا بمقولات (ماكس فايبر) الذي عالج مسألة الدين إلا أنه ربطها بالسحر والخرافة والأسطورة، إذ يعتقد ماكس فايبر “أن السحر عبارة عن مجهود يبذله الرجل المتأخر لتسخير الطبيعة وتحقيق مصالحه المادية مثل شفاء الأمراض والمطر الذي يروي الأرض والشمس التي تنضج الثمار” (د.عبدالله الخريجي/1990م: 61)، ويذهب فايبر أيضا في دراساته للشعوب البدائية في استراليا إلى حضور الدين بعدا مهيمنا في العلاقات الاجتماعية تارة، وإلى تأثره بالواقع الاجتماعي تارة أخرى عبر التأثير والتأثر وفق مبدأ إشباع الحاجات إلا أنه يكون على نطاق جمعي، كما في مراعاة مصالح القبيلة، فقد تمتنع القبيلة عن ممارسة معينة فيما بين أفرادها عملا بمبدأ ديني مثل الحرام، ولكنها تسوغ لأفرادها فعل ذلك (الحرام) مع أفراد القبائل الأخرى، إلا إذا كان هناك حلف أو ما يشبه المعاهدة بين قبيلتين تمنع من ذلك، وكذلك يسهل الدين عملية التبادل في الخدمات والتعاون في توفير الغذاء والماء وما شابه ذلك. (د.عبدالله الخريجي/1990م: 61- 62).

   إن الخوض في مهمة صعبة تتلخص في فرز الظاهرة الدينية وتنقية عروقها وأنساغها عما لصق بها واشتبه بها واختلط معها، لتتضح رؤيتها، يمثل مجازفة كبيرة لاسيما مع التداخل الكبير بين الديني والاقتصادي والسياسي، إلا أن الجانب الاجتماعي يمكن أن يقدم لنا تصورا أكثر دقة، بمعزل عن التوجهات البراغماتية غير المحايدة ولا الموضوعية لكل من السياسة والاقتصاد، فنجد “أن الظاهرة الدينية كانت مختلطة بالظاهرتين السياسية والاقتصادية، ولكن هذا الاختلاط لم يكن دليلا على اتحاد طبيعة هذه الظواهر، وتختلف هذه الظواهر فعلا من الناحية القانونية، ولا يمكن إرجاع إحداهما إلى الأخرى، وغاية ما هنالك أنها تختلط بعضها ببعض، ويفسر بعضها البعض الآخر، ويأخذ التطور الاجتماعي فيما بعد على عاتقه مهمة التفرقة بين هذه الظواهر المختلفة، ويفصل بين الظواهر أو النظم التي يشبع كل منها حاجة خاصة”(روجيه باستيد/1951 :212)، وهذا ما نلمسه في فعل فك الاشتباك والاشتباه الذي يمارسه الدكتور علي المؤمن في ساحى الاجتماع الديني العراقي مثلا حين يستبعد الصورة التي تبدو من بعيد لترسم ملامح السياسة على المجتمه من دون النظر في البعد الديني، كما نجد ذلك مثلا في كتاباته عن الاجتماع الشيعي في العراق بين كونه اجتماعا شيعيا أم إجتماعا عراقيا، السياسي مع الديني أم الديني مع الاجتماعي أم السياسي مع الاجتماعي، وهي عملية تفكيك وتحليل وتشخيص معقدة إلا أنها ممتعة حين تكون وسيلة لحل الألغاز في فهم طبيعة المجتمع العراقي وسلوكياته الجمعية بعيدا عن آخر صورة رسمها الدكتور علي الوردي وبقيت عالقة في الأذهان، فبين (العَلِيَّيْنِ) مسافة كبيرة بحجم الفجوة بين نظرية الوردي وواقع العراق، مما يركز الحاجة إلى فهم معاصر أشد نضجا وأكثر عمقا، فلا يكفي أن يعتقد الدكتور علي الوردي “أن النفس البشرية تحتاج إلى التدين كمثل ما يحتاج البدن إلى الغذاء، إن التدين يشبه أن يكون غذاء نفسيا للإنسان، فالإنسان مهدد بالأخطار والمشاكل دائما، وهو يخشى الموت، فهو إذن في حاجة إلى عقيدة وطقوس دينية تساعده على مواجهة تلك الأمور المرعبة، وعلى تقوية عزيمته وبعث الطمأنينة في نفسه تجاهها” (علي الوردي/ 2009: 247)، لكي تكون نظرته إلى المجتمع العراقي وتدينه نظرة عميقة، نعم لقد وصف ما رأى بشكل واضح، ولكنه لم يخرج عن الأثر البيئي، ما بين البداوة والريف والمدنية، ولم يكن البعد الاجتماعي عنده إلا إنعكاسا للبيئة، وتبعا لذلك برز تقويمه للجانب الديني في العراق، فهو قد عجز عن تفسير ظاهرة تشيع القبائل العربية التي ارتحلت إلى العراق، لأنه لم يعمل على تفكيك الدين من خلطائه في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وركز على البعد البيئي للاجتماع، فأسقط ذلك على فهمه للتدين في المجتمع العراقي (علي الوردي/ 2009: 250).

    إن تصدي الكتّاب والمفكرين للقضايا، يمثل وعيهم بسلم الاولويات، فهناك من يقدم الاقتصاد على غيره وهناك من يقدم السياسة وهناك وهناك، إلّا أن الحقيقة التي تفرض نفسها، وقد تسلح بها الدكتور المؤمن، هي أن الإنسان يتقدم على ما دونه من قضايا، سواء في بعده الفردي أو الجمعي، مع محاولة الموازنة بين الفرد والجماعة، ولكن في البدء كان الإنسان، ولابد من النظر إلى ظواهره الاجتماعية بالانطلاق من تصوراته هو ، لا من مؤثرات خارجية نفترض نحن أن لها السلطة والتأثير المطلق عليه مثل البيئة والسياسة والاقتصاد، بل لابد من الانطلاق من تصورات الإنسان نفسه، فنحن نراه يصوم تدينا وهو بذلك يتخلى عن لذاته، ويعطي الزكاة والصدقة تدينا وهو بذلك يتخلى عن أمواله، مهما كانت بيئته أو حاله سياسيا واقتصاديا، لذا فحين ننظر إلى منهج الدكتور علي المؤمن في رصد الاجتماع الديني لاسيما في العراق، فإننا نجد ما يشجع على توقع صحة المعطيات عند هذا الكاتب الفذ.

     ثالثا : الاجتماع الديني الشيعي :-

       يقدم الدكتور علي المؤمن تصوره عن الاجتماع الديني الشيعي وهو بذلك يفتتح منطقة بكرا من البحث الاجتماعي، على قدر ما هي مهمة وغنية بالمعلومات، هي كذلك صعبة ومعقدة، وهنا لأذكر مثالا على تناوله قضية خطيرة تتعلق بكشف النقاب عن المهيمن الاجتماعي الديني على الواقع العراقي، في تفصيل القول والفصل بين تشيّع العراق وتعرّق الشيعة، الأمر الذي يقود الدكتور المؤمن إلى تشخيص خطير تناوله فيما وضع له عنوان: “الاجتماع العراقي والاجتماع الشيعي: من الذي طبع الآخر بطابعه؟”؛ وقد وجدتها محاولة مهمة جداً، وعلى غاية من الخطورة، لأنها تحلل الواقع الاجتماعي العراقي والشيعي بطريقة علمية ذكية، وتحل كثيراً من الألغاز المعقدة في تجمعات أهل العراق .فمن ذلك، معادلة التضاد بين العراقي والمستعرَق، وهي معادلة قد أرجع للكتابة عنها في مناسبة أخرى لأهميتها، ولكني فضّلت أن أركز الحديث في معادلة التشاكل بين تشيع العراق وتعرق الشيعة.

    ونجد أن الدكتور المؤمن قد استقرأ الطبيعتين الاجتماعيتين للعراقيين عبر التقاط أهم أسرار حركتهم الاجتماعية منذ القدم وعبر العصور مما هو متوافر في المصادر، وللشيعة منذ نشأة التشيع على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإذ يقرر الدكتور المؤمن أنه: ((في العراق، وتحديداً في الكوفة وبغداد والنجف؛ نشأ النظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي))؛ فإنه ينتقل من ذلك الى الكشف عن أجوبة ((كيف انعكست الطبيعة العراقية على السلوك الشيعي العام؟ وكيف كان التأثير والتأثر بين التشيع ومسارات نشوء الشيعة واجتماعهم؟  ومن الذي طبع الآخر بطابعه بشكل أكبر؟))، ويتضح من كلامه الدقيق أنه (( كانت التأثيرات الاجتماعية العراقية ومناخاتها في السلوك الشيعي أكبر من تأثير التشيع في طبيعة المجتمع العراقي))، مقرراً بوضوح أن لطبيعة التشيع أثرها في المجتمع من خلال خصائص دين التشيع المعروفة عبر السنين، والتي رافقت تشكله ، وأن ((سر التماهي والتشابك والتفاعل بين الاجتماع الشيعي والاجتماع العراقي، لايتعلق بالتشيع والشيعة وحسب، بل بطبيعة البيئة العراقية الأصلية أيضاً، أي البيئة السومرية البابلية للفرات الأوسط والجنوب، وتكوينها التاريخي، منذ خمسة آلاف سنة؛ فهي بيئة تنسجم نفسياً وسلوكياً مع عقيدة التشيع واجتماعه الديني ومساره التاريخي الثوري المعارض والمقموع)).

      ولا يكتفي الدكتور المؤمن في تقرير أثر البيئة، بل يوضح ما يقصده من البيئة خارجا عن الجغرافيا والأنواء الجوية والتضاريس والمناخ، ويواصل حديثه بهذا الصدد ليقول: (( فالبيئة العراقية الأصلية هي بيئة رفض واعتراض وثورة وتمرد على السلطة والحاكم والظالم؛ ما جعلها تتفاعل تلقائياً مع طبيعة المسار الشيعي المعارض للسلطة واجتماعها السياسي والديني))، وهذا عنده ما فتح المجال ((لتأثير البيئة العراقية في المسار الشيعي، وبلورتها طابع الرفض والمعارضة فيه)). وتكمن الخطورة في هذا التشخيص في أن التشيع صار مطواعاً للطبيعة المتقلبة للعراقيين، ولم ينضبط العراقيون على ضابطة التشيع الثابتة المسار خلف إمامهم الذي يفترض أنهم يشايعونه، وهذا ما أجده على مستويي التنظير والتطبيق؛ إذ ((أن الاجتماع الديني الشيعي، بصيغه المحلية والعالمية، هو نتاج تفاعل البيئة العراقية الأصلية واجتماعها وسلوكياتها، مع مسارات نشوء التشيع)).

    ويبقى سؤال مهم عندي للغاية: لماذا غلبت عرقنة الشيعة على تشيع العراق؟ .على أن هذا واضح جداً في بيانات أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكوفة وأحاديث من تبعه من الأئمة (عليهم السلام)؟ .وهذا يؤدي بنا بدوره الى سؤال آخر: ماذا لو غلب التشيع على العرقنة؟ هل كنا سنجد طباعاً تتسم بالطاعة للمعصوم والنصرة له على المدى الاجتماعي الغالب، بدلاً من العصيان والخذلان؟ .أي هل كان ممكناً أن واقعة الطف لم تكن ستقع كما هي، لو تشيع العراقيون؟ ولكان النصر حليفاً للإمام الحسين (عليه السلام)؟ وأنها وقعت بدموية صارخة ضد أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) بسبب تعرق الشيعة؟.

    أهل التأريخ؛ يدور معظمهم في فلك الدورة التاريخية (التاريخ يعيد نفسه)، ولكني أبحث عن الدائرة المعرفية؛ فالمعرفة هي التي تنتج حركة التأريخ؛ إذ يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل بن زياد: ((ما من حركة إلّا وأنت محتاج معها الى معرفة.. خذ عنّا تكن منّا))، ما يعني أن حركة التأريخ الدائرية سببها المعرفة الدائرية.. هكذا نجد تفسير التأريخ عند أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأن عقائد فاسدة تنتج أكثر من معاوية وأكثر من حجاج إذا تكررت؛ فــ ((كيفما تكونوا يولَّ عليكم))، ولذلك أعتقد أن العقيدة إذا كانت سليمة يمكن تصويب حركة التأريخ. وهكذا أقرأ الظهور الشريف: ((أين هادم أبنية الشرك والنفاق؟))؛ فهو يهدم العقائد والمعارف المنحرفة ليشيد بدلا منها صالحة. ولذا فإني أميل الى ضرورة تشييع العراق كاستراتيجية ضرورة وجودية للعراق، والتقليل من أثر عرقنة التشيع.

    ولمن يقرأ كتابات الدكتور المؤمن سيجد بسطاً شافياً لطبائع الاجتماع العراقي التي غلبت على التشيع، وحوّلته عن مساره من النصرة الى الخذلان، كما تشهد بذلك بيانات أهل البيت (عليهم السلام) ووقائع التأريخ. وعلى أية حال فهذا ما سيفعله الإمام المنتظر (عليه السلام)، وكل حركة مخالفة لحركته مصيرها الهدم .

رابعا : ما رأيته في جهود الدكتور علي المؤمن :-

    منذ مدة ليست بالقصيرة وأنا اقرأ لهذا الكاتب النبيه، وألاحق أفكاره.. أعيدها -كعادتي حين أقرأ – الى أصولها الفلسفية، متتبعا أنساغها ومورثاتها، حتى أوائل أهل الفكر وآبائه، فوجدت أن له مزايا أجمل ما أجمله منها كما يأتي، عسى أن تتاح لي فرصة الحديث المفصل عن الكاتب وعن نتاجه الفكري في مناسبة أخرى:

   1- يتخذ الدكتور علي المؤمن من الإنسان غاية ووسيلة فيما يكتب، لذلك فهو يحاول أن لا يحمِّل الإنسان مسؤولية كل شيء من دون أن يكسب شيئاً، كما هو شأن الفلسفات والأفكار المتشائمة والانهزامية التي لا تلد ألّا اليأس والاحباط وانهدام البناء الوجودي للإنسان.

   2- ينطلق من حيثيات المجتمع الذي يحاول معالجة مشاكله، ولا يفرض مسبقات فكرية يقحمها في الموضوع، ربما تكون مشكلة مضافة فيما لو طبقت فعلاً.

   3.يحاول المقاربة المعرفية في الإفادة من التجارب المغايرة، دون المقاربات السياسية السطحية الفاشلة، كما نجد في كتاباته عن الديمقراطية ومحاولة التأصيل الإسلامي.

   4- يعتمد مجسّاته الخاصة في تحسس الواقع وملامسته عن قرب، لتكون المعلومات المتاحة للتحليل أقرب إلى الصدق، مما يظهر النتائج ذات أهمية معينة.

   5- إن تواضع الرجل وحضوره الثقافي، قد رسّخ قبوله بالرأي الآخر وإبداء الملاحظات على آرائه، ونجد له تعديلات مهمة على آرائه تبعاً لذلك، وهذا يحسب له، ويمثل حالة من الوعي مطلوبة للمفكرين وحملة الأقلام في هذه الأمة المعطاء.

   6- إن هذه الملاحظة الأخيرة تشجعني للطلب منه التركيز على الجانب المعرفي للإنسان وعلاقته ببناء مؤسسات الدولة، فإن تجاهل هذا الحقل المسكوت عنه يعد أحد أسباب فشل تلك المؤسسات في وقتنا المعاصر، والدكتور المؤمن يمتلك القدرة على تفعيله.

   7- وأضيف أفقاً آخر لمقترحي هو علم المستقبليات في أفق المأسسة المعرفية للعلاقة بين المجتمع والسلطة.

    أعتقد جازماً أن الدكتور المؤمن يستحق التكريم، ولعل أفضل تكريم له أن يعطى فرصة إنشاء فريق عمل للدراسات، لتطبيق أفكاره، بتمويل حكومي مناسب، مع الحرية المطلوبة لكتابة القضايا المعرفية المهمة للدولة العراقية وارتباطها بمأسسة المجتمع على أسس حضارية متينة. وكم هو مشرق الصباح الذي يكرم فيه مبدع عراقي في حضور مهم للنخب الفكرية والثقافية والأكاديمية، فإن هذا بحد ذاته يعد انتصاراً للإنسان على أهم مشكلة من  مشكلات العصر، وهي الخوف على المثقف النخبوي من الانسحاق تحت عجلة الهامشي والطارئ واليومي، فإن ذلك بات  من أخطر الأعراض الجانبية للفوضى ( النفّاقة ) التي يعيشها عالمنا اليوم.

المصادر والمراجع:

  • روجيه باستيد، ترجمة محمود قاسم، مبادئ علم الاجتماع الديني، المطبعة الانجلومصرية، القاهرة، 1951.
  • سابينو أكوافيفا و إنزو باتشي، ترجمة د. عز الدين عناية، علم الاجتماع الديني- الإشكالات والسياقات، دار كلمة، أبو ظبي، 2011.
  • عبد الله الخريجي، علم الاجتماع الديني، رامتان، ط2، جدة، 1990.
  • علي المؤمن، الاجتماع الديني الشيعي- ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع، مركز دراتسات الشرق العربي، بيروت، 2020.
  • علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، دار ومكتبة دجلة والفرات، بيروت، 2009.