م.م حسن عبدالهادي اللامي – كلية العلوم الاسلامية – جامعة كربلاء
لجنة احياء الشعائر الاسلامية
مِنَ الثّابِتِ في الدّراساتِ التخصُّصيّةِ هُوَ تأثيرُ البيئةِ على الإنسانِ وتأثيرُهُ عَليها، فهُناكَ تغذيةٌ تبادُليّةٌ لا تَنفَكُّ؛ فأينَ ما تَواجَدَ الإنسانُ جَذَبَ إليهِ مَن في مُحيطِهِ، كما أَنَّهُ يتفاعَلُ معَ ما يُحيطُ بهِ، ولَعَلَّ أبسطَ صُورِ التفاعُلِ معَ المُحيطِ – البيئةِ – هيَ عَمليّةُ التَّنفُّسِ فيأخُذُ الهواءَ النَّقيَّ ويَزفِرُ الهواءَ المؤكسَدَ! فكيفَ بِمَن يَتَنشَّقُ عِطرَ النُّبوَّةِ والإمامَةِ، وينشَأُ تحتَ كَنَفِ خاتَمِ الأنبياءِ، ويتغَذَّى مِن لَبَنِ سَيِّدَةِ النّساءِ، وتَحُوطُهُ رِعايَةُ سَيِّدِ الأوصياءِ، ويَدرُجُ في صِباهُ معَ الإمامَينِ الحَسَنِ والحُسَينِ!
هذهِ الأُسرَةُ الطّاهِرَةُ المُطَهَّرَةُ التي تَحَدَّثَ عَنها الخالِقُ في مَوارِدَ مُتَعدِّدَةٍ مِن كتابِهِ المجيدِ وكَشَفَ عَن أسرارِها النُّورانيّةِ ومَقاماتِها الرُّوحيَّةِ التي جَعَلَتهُم أئِمَّةً يهدُونَ الى الخيرِ ولا يخشَونَ في تبليغِ رِسالَةِ رَبِّهِم أحداً ولا يعبَؤونَ بِلَومَةِ لائمٍ
قالَ اللهُ تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (*) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ
يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}
نَعَم؛ هِيَ بيوتٌ مَلَكوتِيَّةٌ وليستْ مِن حِجارَةٍ وقَصَبٍ، كما يقولُ الإمام الباقِرُ-عليهِ السَّلام-.
لَقَد وُلِدَتِ السَّيِّدَةُ زينبُ بنتُ الإمامِ عليٍّ-عليهما السَّلام-في بيتِ النُّبوَّةِ المُطهَّرِ في المدينةِ المنوَّرَةِ في الخامسِ من جُمادى الأولى مِنَ العامِ الخامسِ أو السّادسِ مِنَ الهجرةِ النبويّة المُشَرَّفة.
وأنبتَها ربُّها نباتاً حَسناً تحتَ الخَيمَةِ النورانيّةِ – أصحابِ الكساء – أهلِ البيتِ الخمسةِ الذينَ أذهبَ اللهُ عنهُم الرجسَ وطهّرهُم تطهيراً …
زينبُ العقيلةُ سيّدةُ نساءِ قومِها؛ فكونُها عقيلةً؛ أي: المرأةُ الكريمةُ، النفيسَةُ، المُخدَّرةُ؛ العالِمَةُ غيرُ المُعلَّمَةِ!
منذُ أنْ كانتْ صغيرةً غلبَ عليها الحُبُّ الإلهيُّ والانجذابُ لجمالِ الخالقِ -عزَّ اسمُهُ-يُروى أنها سألتْ أباها الإمامَ عليّاً ذاتَ يومٍ؛ فقالتْ: أتحُبُّنا يا أبتاه؟ !
فقالَ الإمامُ: وكيفَ لا أُحبُّكم وأنتم ثمرةُ فؤادي!
فقالتْ: يا أبتاهُ إنَّ الحُبَّ للهِ تعالى، والشفقةُ لنا !!!
هذا التمييزُ في حدودِ المفاهيمِ مِن أهمِّ ما تعتمدهُ مناهجُ العِلمِ والمعرفةِ فعلى ضوءِ تحديدِ المفهومِ ينكشِفُ المصداقُ.
قد يُبدي التلميذُ بعضاً مِن قابلياتِهِ التي استقاها مِن
أُستاذِهِ في حضرَتِهِ؛ لذا أظهرتِ السيّدةُ زينبُ بعضاً مِن قُدراتِها المعرفيّةِ أمامَ أبيها “إمامِ العارفينَ والموحّدينَ والمحبّينَ أميرِ المؤمنينَ” فوضعتْ مائزاً وضابطاً معرفيّاً بينَ الحُبِّ والشَّفقةِ .
فالقلبُ حرمُ اللهِ وينبغي أنْ تتّجهَ المشاعرُ والعواطفُ لهُ وحدَهُ؛ استناداً الى قواعدِ التوحيدِ الحقيقيِّ؛ والأبناءُ ينبغي أنْ يكونوا خارجَ الحرمِ ولهُم مِنَ القلبِ الشَّفقةُ: أي العطفُ والحنانُ والرأفةُ والحُنُوُّ وهيَ فصيلةٌ خاصةٌ مِنَ الحُبِّ، تنبعِثُ من قلبِ الوالدينِ لأطفالهُما!
مِن تلكَ المشاهدِ والمواقفِ العَبِقَةِ في سيرةِ سيّدةِ البيتِ الهاشميِّ انتقِلُ بكَ الى ذلكَ المجلسِ المشؤومِ الذي أُدخِلَتْ فيهِ العقيلةُ زينبُ أسيرةً؛ قد فقدتِ الأحبّاءَ والأبناءَ ، وأحاطَ بها الأعداءُ في مِحنَةِ السّبيِّ بعدَ مقتلِ أخيها الإمامِ الحُسينِ وأهلِ بيتِهِ وأصحابهِ على يدِ المجرمِ يزيدَ وزبانيتِهِ الظالمونَ … في وسطِ المجلسِ وُضِعَ رأسُ سبطِ رسولِ اللهِ-صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ- يلتفِتُ ابنُ زيادٍ شامتاً الى السيّدةِ زينبَ قائلاً : كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ الله بِأَخِيكِ وَأَهْلِ بَيْتِكِ؟!
قالَها هذا الجلفُ شامتاً ومتشفّياً لكنّهُ ما درى أنهُ يخاطبُ إنساناً غرسَهُ الربُّ في بيتِ النبوّةِ وينظرُ الى صُنعِ اللهِ بعيونِ قلبهِ الطاهرِ يُراقِبُ تجلّياتِ الجمالِ
والجلالِ الإلهيِّ فيسمو بنفسهِ المطمئنةِ نحوَ داراتِ القُدسِ والحُبِّ والجَّذبِ …
لم يُسمَعْ بردٍّ في التأريخِ لامرأةٍ فقدتْ أعزَّتَها وحُماتَها ووُلاتَها؛ تنطِقُ بقوّةٍ وثباتٍ ورباطَةِ جأشٍ دونَ عَبرةٍ أو استرحامٍ أو وَجَلٍ لتقولَ قولتَها الخالدةَ:
“ما رأيتُ إلا جميلاً ” !!!
لقد أفرغتْ عَن حقيقةٍ، ونطقتْ عن مشاهداتٍ عميقةٍ، إذ أنَّ رؤيةَ الجمالِ يتطلبُ صفاءَ القلبِ ونقاءَ الخاطرِ وفناءً في صفاتِ المحبوبِ الجماليّةِ ومراقبةَ تجلياتِ جلالهِ في تدبيرهِ، فكانَ جوابُ العقيلةِ كاشفاً عن حالِها الروحيِّ معَ اللهِ تعالى بينَ جذبٍ وَوَجَلٍ وبَسطٍ وقبضٍ وخوفٍ ورجاءٍ ؛فقالتْ لهذا الجلفِ المجرم ِ:
(ما رَأَيْتُ إِلاّ جَميلاً، هؤُلاءَ قَوْمُ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقَتَلَ، فَبَرَزُوا إِلى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ اللهُ بَيْنكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتَحَاج وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلجُ يَوْمَئِذٍ، ثَكَلَتْكَ اُمُّكَ يَا بْنَ مَرْجَانَةَ..).
إنْ كُنتَ تتحدَّثُ عَن صُنعِ اللهِ بِنا: فنحنُ لا نَرى إلا تجلياتِ الجميلِ المُطلقِ.
المشاهداتُ القلبيّةُ التي تتمتّعُ بها العقيلةُ زينبُ لا يُمكنُ لأمثالِ هذا المرتزقِ المجرمِ ابنِ زيادٍ أنْ يشاهدَها فهوَ مِنَ المحجوبينَ المُبعدينَ، وما يتخيّلُهُ مِن المَكَنَةِ والنَّصرِ
ليُظهِرَ شماتتَهَ ُبأهلِ البيتِ نابعٌ عَن وَهمٍ كبيرٍ في تمييزِ النَّصرِ الحقيقيِّ مِنَ الزائفِ! فإنَّما الظَّفَرُ الحقيقيُّ هوَ يومَ القيامةِ فهناكَ سيتَّضِحُ مَنِ المُنتَصِرُ!
إنّها تكشِفُ عَنِ الموطنِ الحقيقيِّ للنّصرِ، كأنّما تقِفُ على قمةِ نورٍ سامِقَةٍ ترمُقُ هذا المرتزقَ المأجورَ بعينِ الاحتقارِ توبِّخُهُ وتفضحُ قامتَهُ الواقعيّةَ، فإنَّ أولياءَ اللهِ تعالى نصرُهُمُ الكبيرُ يومَ توضعُ الموازينَ الحَقَّ، فمَن ثَقُلتْ موازينُهُ فهذا الذي ينقلِبُ فَرِحاً مسروراً، وأمّا مَن خَفَّتْ موازينُهُ فهذا الذي سيدومُ ثُكلُ أُمِّهِ عليهِ ويدعو على نفسهِ بالوَيلِ والثُّبورِ .