من كتاب شرح حكم نهج البلاغة للمؤلف الشيخ عباس القمي
ازهد في الدّنيا يبصّرك اللّه عوراتها، و لا تغفل فلست بمغفول عنك (1) -. [3] لمّا كانت محبّة الدّنيا مستلزمة لإخفاء عيوبها عن إدراك محبّيها، كما قيل: «حبّك الشيء يعمي و يصمّ» [4] ، كان بغضها و السخط عليها رافعا لذلك الستر.
أمر عليه السلام بالزهد فيها لهذه الغاية، فإنّه إذا زهد فيها فقد سخطها، و إذا سخطها أبصر عيوبها مشاهدة لا رواية. و هذا كما قال القائل:
و عين الرضا عن كلّ عيب كليلة # و لكنّ عين السّخط تبدي المساويا
[1] سورة الشعراء (26) -89.
[2] شرح ابن أبي الحديد 19-337.
[3] نهج البلاغة، الحكمة 391.
[4] جمهرة الأمثال 1-356.
[5] البيت لعبد اللّه بن معاوية، الأغاني 12-214.
ثمّ نهى عن الغفلة فيها، إنّك غير مغفول عنك، فلا تغفل أنت عن نفسك، فإنّ أحقّ الناس و أولاهم أن لا يغفل عن نفسه من ليس بمغفول عنه، و من عليه رقيب و شهيد و من يناقش عليه الفتيل [1]
و النقير. [2]
إنّ للوالد على الولد حقّا، و إنّ للولد على الوالد حقّا [3] ، فحقّ الوالد على الولد أن يطيعه في كلّ شيء إلاّ في معصية اللّه سبحانه، و حقّ الولد على الوالد أن يحسّن اسمه، و يحسّن أدبه، و يعلّمه القرآن (1) -. [4] أمّا صدر الكلام فمن قول اللّه سبحانه: «أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوََالِدَيْكَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ `وَ إِنْ جََاهَدََاكَ عَلىََ أَنْ تُشْرِكَ بِي مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاََ تُطِعْهُمََا» . [5]
افعلوا الخير و لا تحقروا منه شيئا، فإنّ صغيره كبير، و قليله كثير، و لا يقولنّ أحدكم: إنّ أحدا أولى بفعل الخير منّي، فيكون و اللّه كذلك. [6] (2) –القليل من الخير خير من عدم الخير أصلا (1) -.
قوله: «و لا يقولنّ» إلى آخره كناية عن ترك المرء الخير اعتمادا على أنّ غيره بفعله أولى، مثل ردّ السائل عن الباب و إحالته إلى آخر بقوله: اذهب إلى فلان، فهو أولى بأن يتصدّق عليك منّي.
«فيكون و اللّه كذلك» أي أنّ اللّه يوفّق ذلك الشخص الذي أحيل السائل عليه، فيصدّق عليه، فتكون كلمة ذلك الإنسان الأوّل قد صادف قدرا و قضاء، و وقع الأمر بموجبها.
[1] الفتيل: ما يكون في شقّ النواة. (الصحاح 5-1788-فتل)
[2] النقير: النقرة التي في ظهر النواة. (الصحاح 2-835-نقر)
[3] في النهج تقديم و تأخير في هاتين الفقرتين.
[4] نهج البلاغة، الحكمة 399.
[5] سورة لقمان (31) -14-15.
[6] نهج البلاغة، الحكمة 422.