الدكتور سرمد عادل صاحب – كلية العلوم الاسلامية – جامعة كربلاء
يُمهّد لبيان نقد السّيّد محمد باقر الصّدر (قدّس سرّه) الفروضَ في نظريّة المرحليّة، بفهم إجماليّ لقوام النظريّة، وقوامها على نحو عام مجموعة من الفروض الابتدائيّة تتركّب بعضها على بعض , باتساق مع الحقائق والمعارف المقرّرة سابقا ضمن مسار برهانيّ محدد ؛ لتكوّن مسربا نظريّا متسعا يُفسّرُ عدة ظواهر، ثُمّ تتنبّأ بخواص لم تُكتَشف بعد للظواهر المفسّرة تحت شروط وظروف جديدة ، وأقوى النّظريّات وأعمقها هي تلك الّتي تتخطى حالة التّفسير إلى حالة التّنبؤ، وتكون متسقة ذاتيًّا؛ أي لا يمكن نقـــض فروضـــــــــها الأوليّة بنتائجها النهائيّة.
ويفاد من السّالف ذكره ، بناء تصوّر لنظريّة المرحليّة، فهي تركيب ذهنيّ يتعلّق بمفهوم العمل الإسلاميّ الحركيّ، وينبني على فروض، وأزعم أنها تتأطر بين فرضين:
أحدهما، يتجلّى في فرض (التّقدير)، وصورته تهيئة مراحل العمل الحركيّ من جهة مقدار المدّة الزّمنيّة حتى تصل إلى المقصد والمراد , ويبيّن العمل الحركيّ في هذا الفرض في ضرورة بناء وتربية جيل من المؤمنين بالإسلام ودعوته المباركة تربيةً عقائديّة وبشكل سريّ، ويهتمّ بنوعيتهم أوّلًا ثمّ بكميتهم ، فيكوّنون تنظيما صُلبًا تحت الأرض، فيصاغ منهم أمّة مصغّرة من الأمّة الإسلاميّة الكبيرة ، مؤهّلة لقيادة البشريّة وتوجيهها فإذا أتى الوقت المناسب أعلنت الحركة نهاية مرحلة التّكوين والصّوغ والبناء ، وأشرعت بداية المرحلة الجديدة – وستبين في الفرض الثاني- وعندها تخرج أمّة من الدّعاة من تحت الأرض إلى العلن، وتستلم زمام المبادرة بأسهل طريق، كأن يكون بانقلاب عسكريّ، أو عبر طريق الانتخابات، أو بأي وسيلة تراها قيادة الحركة مناسبة آنذاك.
والآخر، يتمثّل في فرض (الانتقال)، ويحيل هذا الفرض على إمكان التّحوّل من مرحلة تكوين بنية سرّيّة – والّتي تأسست على تخوم الفرض الأوّل – إلى مرحلة علنيّة منظّمة، تتحرّك وتحتكم إلى مباني الإسلام في إقامة مجتمع تنشقّ قيمه وحياته وأوضاعه من نبع قرآني فريد ، تحاول كسب أبناء الأمة إلى جانبها وتتبنى أطر التغيير الّذي ما ينفك يخلع على عتبته جذور الجبت والطّاغوت.
وحقيق بنا أن نشير إلى أن نظرية المرحليّة لا تمتنع من النّقد على الرغم مما ركّبته من فروض متسقة وتسليم برهانيّ , فقد جرى النّظر إليها من لدن السّيّد محمد باقر الصّدر (قدّس سرّه) عندما اتجه ينقد فروضها ويمحّص مدلولاتها، وأتى ذلك من وجوه:
الوجه الأوّل، ويظهر هذا الوجه في تصوّره (قدّس سرّه) لطبيعة الإنسان وفطرته ، فليس بالإمكان بناء أمّة تحت الأرض ؛ لأن حقيقة الإنسان وصفاته الشّخصيّة ومستوى إيمانه ، لا تعرف إلا فوق الأرض ، فتخيّلنا أن التّنظيم السّريّ يصلح وعاءً لبناء القيادات ، مثله مثل تخيّل تعليم سبّاحين في حوض افتراضيّ ذهنيّ لا ماء فيه.
الوجه الثاني، وتأتّى هذا الوجه عِبْرَ إدراكه لطبيعة السّلطة الحاكمة، وحاصل نقده وتصـوّره (قدّس سرّه), إنّنا عندما نعيش في بلد حرّ يؤمن باحترام الشّعب وآراءه ، ولا تجابههم السّلطة بالتّقتيل والتّشريد ، يكون بالإمكان افتراض عمل حركيّ يبدأ عمله بصوغ بنية ذاتيّة بشكل سريّ ، ثمّ يأتي بعد ذلك على مرحلة علنيّة ظاهرة ، تحاول إقناع الأمّة وجرها إلى تبني المواقف الإسلاميّة على المستويات كافة ولاسيما السياسيّة منها ؛ ولكن الواقع في مثل العراق ليس هكذا ، ففي أيّ لحظة تحسّ السّلطة الظالمة بوجود تنظيم إسلاميّ سريّ يعمل على وفق هذه المراحل في تحكيم الإسلام ، فتتجه لتخنق العمل قبل تمام تعاطف الأمّة معه وتحرّكها إلى جانبه ، مما يفضي إلى نفي الانتقال من المرحلة الأولى إلى المراحل الأخرى ، فإن بطل تصوّرنا لمرحلة الصّوغ والبناء بطلت بقية المراحل؛ لأنها مبنيّة عليها.
الوجه الثالث، وفحوى هذا الوجه النّقديّ يسير إلى طبيعة التنظيمات السّريّة ، فسريّة التّنظيم والقيادة يكوّن جوًا ظلاميّا ، ما من شأنه أن يفتح الباب أمام أفراد التّنظيم وغيرهم لأنواع الإدعاء والتّبجّح في أدوار الأشخاص والتّسلّق وادعاء المسؤوليات الكاذبة ، فيدعي أشخاص لا تقوى لهم ما شاءوا.
الوجه الرّابع، ويقوم هذا الوجه النّقديّ عند السّيد محمد باقر الصّدر (قدّس سرّه) على زاوية فقهيّة تلتصق بأصل من أصول الفقه وأعني به: الإجماع ، ذلك أن سريّة القيادة تخالف ما أجمع عليه الفقهاء ، فقد أفتوا بعدم جواز الانتماء إلى تنظيم قيادته سرّيّة ، ومسوغ الإجماع ، يتعلّق بإشكال ظهر في السؤال الآتي: كيف يجوز للمسلم أن يسلّم رقبته وجهده إلى مجهول لا يعرفه.
وهكذا اقتضت نظريّة المرحليّة النّقد في فروضها ، مما يرسّخ في أذهاننا قدرة الشّهيد الصّدر (قدس سرّه) في استيعاب النّظريات وتحليلها على مستويين: أحدهما داخليّ يتمثّل في مسارها البرهانيّ ، والآخر خارجيّ ويكون في قيمتها العمليّة التّطبيقيّة.